الخميس، 2 أبريل 2009

ثقافتنا التربوية ... ويا سقى الله رعى الله

نميل كثيرًا في ثقافتنا العربية بشكل عام نحو تمجيد الأصل والبكاء على الماضي ، ويشدنا الحنين إلى ماضينا في اتجاه تذكر إيجابيته من وجهة نظرنا ولو لم تكن هي الغالبة على مقوماته وسماته، ونغض البصر بإرادة أو بدون إرادة عن سلبياته ولو كانت هي الغالبة عليه ، ونشتاق للعودة إلى الوراء زمنًا ومكانًا ، ويتضح ذلك في إجابات الأجيال السابقة عندما يسألون عن أحكامهم في سمات عهود الأجيال اللاحقة ، ولا تخلوا إجاباتهم في العادة من قولهم : سقى الله أيامنا الخوالي ، ورعى الله جيلا ربا في أحضان ماضينا ، وكأنهم يتباكون على تغير الزمن وسمات العصر واختلاف اهتمامات الأجيال ، وكأنهم لا يرون في حاضرهم المميزات التي تميز بها ماضيهم ، أوكأنهم لا يرون في حاضرهم إلا سلبياته ولا يرون في ماضيهم إلا إيجابياته ، وكأنهم لم يبلغوا درجة الرضا عن إيجابيات التطورات المعاصرة في المكونات والسمات والمعطيات للعصر والفاعلين فيه.
هذه الثقافة السائدة لدى العربي لم تنشأ من فراغ ،وهي واحدة من سلبيات المخرج المنطقي لنوع الثقافة المكتسبة والتي ترتب عليها قصور في الأحكام والمقارنات وضيق أفق الرؤية الشاملة للزمن ، ولعل في تراكم تمجيد الأصل في الأنساب والانتماء المكاني وفي الانتماء العقدي ما يذكي هذه النظرة للزمن الماضي ، وما يربك بناء معايير الحكم بشكل عام ، فيتمكن الحنين والاشتياق من التعتيم على السلبيات التي قد تؤثر على اتجاهات الأحكام .
وفي الشأن التربوي لا تختلف الرؤية عن الرؤية الثقافية السائدة ، فهناك الكثير من التربويين المحضرمين ممن يصدرون الأحكام على الوضع التربوي والتعليمي المعاصر ينطلقون في العادة من هذا التراث الثقافي التراكمي الذي يغيب السلبيات ولا يدخل في معاييره إلا ما يدفع نحو إيجابيات الماضي حنينًا إليه وتوقًا في العودة إلى سماته ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة " يا سقى الله رعى الله.
لعلنا إن حيدنا متغيرات نوع الثقافة عند بناء المعايير العلمية لإصدار الأحكام بشأن وضع الثقافة عامة والثقافة التربوية والتعليمية خاصة بين عصرين متعاقبين أو متمايزين ، سنخلص إلى حقيقة أن ماضينا لم يكن بأحسن حال من حاضرنا ، وأن حاضرنا وإن تراكمت سلبياته يظل أفضل بمسافات بعيدة من ماض افتقر إلى مقومات الحاضر المتطورة ، ولو سحبنا هذا الحكم العام على عنصر من عناصر العمل التربوي والتعليمي لتكشفت تفاصيل الأفضلية ، ولأتضح البون الواسع في إيجابيات العصر بين الحاضر والماضي ، فهذه المناهج مثلا ، بنيت في ماضينا وفق اجتهادات فردية لم تتبنى أي من الفلسفات المعتمدة في بناء المناهج المعاصرة مثل المعرفية أو البنائية أو التكاملية ، وقد امتلأت محتويات المناهج الماضية بالأخطاء في البنى والتراكيب والتتابع والتنوع الخبري والتمازج بين المعارف والمهارات والاتجاهات في اتجاه شمول الخبرة وتكاملها ، وحدث ولا حرج عن جوانب الصياغة ونوع الخطاب وأسلوبه ، وفي ظل هذا الوضع كيف للعقلاء أن يصدرون أحكامًا مطلقة وعامة مجازفين بأن مناهجنا الماضية أكفأ من مناهجنا الحالية مع كثرة سلبيات مناهجنا اليوم ، لو لم يكونوا قد وقعوا في شرك ثقافة يا سقى الله ،وكيف نهمل ما طرأ على فلسفة بناء المناهج من تطورات إيجابية في اتجاه إكساب الناشئة معارف ومهارات واتجاهات تربوية معاصرة لم تكن في خطط واضعي المناهج في ماضينا القريب .
ولكي نحكم بشكل علمي على مخرجات ثقافتنا الماضية فلننظر إلى ما وصلنا إليه مقارنة بالدول المتقدمة ، وندرك أننا نمثل مخرجات ثقافتنا الماضية ، وأن مخرجات ثقافتنا المعاصرة سيحكم عليها جيلنا اليوم عندما يبلغ مبلغنا في الحكم على ما تلقاه من ماضيه ، وقد يحكم بشكل علمي آنذاك بالنظرة الشمولية للإيجابيات وللسلبيات ، وقد يقع في شرك ثقافة يا سقى الله رعى الله كما وقع الكثيرون منا فيها فتعمى عيونهم عن سلبيات ماضيهم وتنتهي أحكامهم إلى تمجيد الماضي وتمجيد الأصول كما نفعل اليوم في كثير من ميادين الثقافة المعاصرة ،، والله الموفق ،،