السبت، 27 يونيو 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ،، الوقفة (1)



الوقفة (1): في قريتي ما قبل المدرسة الابتدائية

عشت ولله الحمد في أسرة ميسورة الحال بقرية الحكمان في منطقة الباحة من أرض الحجاز منذ مطلع العام الهجري 1381هـ عندما كان أغلب سكان قرى ما يطلق عليها الآن محافظة القرى بمنطقة الباحة في وضع إجتماعي واقتصادي متواضع جدًا بدون توافر أدنى وسائل الحضارة المعاصرة ، وكان السكان يشتغلون في الزراعة والرعي واستثمار ما تيسر لهم من الله تبارك وتعالى من أراض جبلية تسقى غالبيتها بمياه الأمطار ،وكنت قد تربيت كما تربى جيلي على عادات مجتمعنا القروي البسيط في تركيبه الاجتماعي والأسري والغالب على تكوينه الترابط بين أفراد الأسرة والمجتمع ، فما أن يبلغ الصبي منا السعي حتى يلتحق ببقية أفراد الأسرة في الخدمة الاجتماعية المتاحة وفق مستوى الأسرة المعيشي فإما مرافقًا ومعاونًا لأفراد الأسرة في رعي الأغنام أو مرافقًا في العناية بالمتوافر من الأراضي الزراعية (العثري) منها وهو المسقي بمياه الأمطار والذي يتطلب من أصحابها تسويتها وتسوية مسايل الأمطار إليها وتنظيفها وحرثها وحمايتها من الطيور وآفات الزراعة أو من الأراضي الزراعية (المسقوي) وهو المسقي من الآبار بواسطة ( السواني ) وهي الأبقار التي تستخرج بواسطتها المياه من الآبار المتوافرة حول الأراضي الزراعية وغالبية الآبار مشتركة بين مجموعة من المزارعين تقتسم مياهها بالتناوب بين الشركاء وفق جداول زمنية معلومة تحدد وفق مساحات الأراضي الزراعية القريبة من تلك البئر ، وقليل من الأسر التي لا تملك الثيران المستخدمة لجلب المياه من الآبار وقد كانت أسرتي من بين تلك الأسر التي تعتمد على (المزارعة مع أهل السواني) أي التقايض ببعض المحصول الزراعي المتوافر أو عند الحصاد مع ملاك الثيران العاملة في الحرث وفي جلب المياه من الآبار أو بالإستئجار اليومي للحرث والدرس والسقاية مقابل النقد المالي .
وقد عملت في صغري برعاية قطيع صغير من الماعز التي اشتراها والدي للانتفاع بها وتعويدنا صغارًا على ما اعتاد عليه صغار القرية من الأسر التي كانت تمتلك أغنامًا ، كما أنني صحبت الكبار من أسرتي في تنظيف المزارع وتسويتها وحرثها وتهيئتها للزراعة لموسمين زراعيين في كل عام صيفًا وخريفًا ، ومما تحتفظ به ذاكرتي أيضًا المساعدة في جلب المياه من الآبار للاستخدام في المنازل وجلب الأحطاب من الجبال والأودية غير المحمية في قريتي لاستخدامها في المنازل للطبخ والتدفئة ، وساعدت في العناية بالمزروعات وفي حصادها ونقلها إلى البيادر وتجفيفها وتهيئتها للدرس لاستخراج الحبوب ، كما ساعدت في تلبية متطلبات أسرتي بإحضار الأعلاف للحيوانات المتوافرة معنا آنذاك للنقل أو الاستحلاب كالحمير والأبقار.
 وكانت أمي رحمها الله تعالى وأخوتي الكبار هم مدرستي الأولى فتعلمت منهم الكثير من المهارات التي اعتاد جيلي على تعلمها من الأسرة والمجتمع وكان الحلم الذي نعيشه وجيلي أن نلتحق بالمدرسة التي تبعد عن منازلنا في نفس القرية ما يزيد عن الفين متر تقريبًا، ونشاهد كل صباح أخواننا الذكور يسرحون إليها يحملون حقائبهم من القماش ويضعون فيها كتبهم وأدواتهم المدرسية المتواضعة ، بينما نحن الأصغر سنًا ننطلق في مرافقة الأمهات أو الأخوات إلى المزارع والجبال أو في رعي صغار الغنم المتوافرة أو الماعز ، كانت ذكريات تلك المرحلة إلى عهد قريب تملأ ذاكرتي ولا أزال أحن إلى مثل تلك الأيام التي كنا نستضيء فيها بالفوانيس والمشاعل وننام مبكرًا ونستيقظ مبكرًا ونلهو بعض الوقت بجوار منازلنا في أعين والدينا ورعاية مجتمعنا القروي المترابط والمتكافل والمتعاون في السراء والضراء .
وكان لأمي رحمها الله تعالى في تلك الأيام سرب من الدجاج الذي كنت أفرح بالعناية به وخاصة ما وسم لي من أفراخها ، ولأن أبي كان يعمل في قرية بعيدة عن قريتي يأتي إلينا في العطلة الأسبوعية لتفقد أحوالنا فإن أمي رحمها الله تعالى هي من تولى تربيتي وإخوتي وكانت ومعاصراتها من النساء ربات بيوت وراعيات أسر متمكنات حريصات على نماء الأسرة وصلاحها يعملن بإخلاص متفان ويكاد جل يومهن يقضينه في العمل بين المنازل والمزارع والجبال للعناية بالأسرة وبالمزارع وبالأنعام والحيوانات المتوافرة للأسر آنذاك .
إنها طفولة بعيدة عن الترف لكنها قريبة جدًا من إعداد الكفاءات الصابرة والمثابرة والمتمكنة من مهارات الحياة اللازمة للعيش في بيئة القرى ، وقد أثرت تلك الحقبة الزمنية في تكوين شخصيتي فيما بعد ومنحتني بإذن الله تعالى مهارات الصبر والتحمل .

ومن الوقفات التي سجلتها في ذاكرتي بحبر الاستدامة ولا تزال باقية من ذكريات تلك المرحلة شغفنا الشديد للمشاركة الاجتماعية والتعاون مع أهل القرية في الخدمة الاجتماعية بالأعراس والأفراح والإسعاف والإنقاذ وفي البناء والتعمير وفي الحصاد والدرس وفي توزيع الصدقات والهبات ونحوها من أعمال الخير وما شابهها من وقفات كانت تعود فينا حب الخير والتعاون على البر والتقوى مما قل توافره في عصرنا الحاضر للأسف الشديد بين أولادنا نتيجة تطور الحياة والمقومات الحضارية وتغير أساليب التربية ، ولعلي أدعو في هذه الوقفة المطلة على تلك الأحداث التاريخية في طفولتي البريئة إلى الاهتمام بتنشئة الصغار على ما ينفعهم في بقية حياتهم فنحاول قدر المستطاع إشراكهم في أحداثنا وحياتنا كمساهمين فاعلين فإن ذلك سيسهم بإذن الله تعالى في نموهم السليم وبناء شخصياتهم البناء المأمول وعدم تركهم دون متابعة ورقابة إلى وسائل التواصل واللهو والترف التي قد تفقدهم المشاعر الاجتماعية التي تربيت وجيلي عليها وكانت ثروتنا في تلك المرحلة من العمر وبقيت معنا مؤثرة في باقي حياتنا ، والله الموفق والمستعان .،،،