السبت، 30 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (13)







الوقفة الثالثة عشرة : ماجدولين على رصيف الحراج
في الأعوام التي قضيتها في قريتي ودرست خلالها المرحلة الابتدائية لم يكن يتوافر لنا غير الكتب الدراسية مصادر للقراءة حيث لم يتوافر آنذاك مكتبات حكومية أو تجارية يمكننا من خلالها اقتناء ما نميل إلى قراءته ، ولذلك اتسمت تلك المرحلة بالركود القرائي عدا ما نطلع عليه في كتب المطالعة المقررة ، ورغم ما نشأ لدي ولدى البعض من جيلي من حب للاطلاع والقراءة فإن شح الوسائل كان يدفعنا إلى الاطلاع على الكتب المدرسية للأخوة الكبار وخاصة ما تضمن منها بعضًا من القصص القصيرة مثل كتب المطالعة والقواعد ونحوها ، ولم تسجل ذاكرتي بأنني اطلعت على روايات أو قصص في مطبوعات غير الكتب المقررة للمدارس . وعندما انتقلت إلى مدينة الطائف بدت لي بعض المكتبات الشهيرة مثل كنز فقدته من سنوات ، حيث كانت مكتبة المؤيد الشهيرة على مقربة من بيتنا في حارة الشرقية لكن الكتب المعروضة فيها غالبًا ما كانت كتبًا مرجعية تخصصية ومجلدات في علوم الشريعة المتنوعة وفي بعض العلوم الأخرى ، ونادرًا ما كانت تحتوي على كتب قصصية أو روائية ، ولم أذكر أنني مع تعدد مرات زيارتي لهذه المكتبة اقتنيت منها كتبًا خلال المرحلة المتوسطة بينما نشطت في عملية اقتناء الكتب المرجعية في المرحلة الثانوية . وفي المعهد العلمي حيث كنت أدرس كانت تتوافر مكتبة صغيرة لكنها كانت تحتوي على بعض الروايات والقصص وكنت من المداومين على الاستعارة منها بعض الكتب والقصص التي كانت تستهويني قراءتها في تلك المرحلة ، ولم أجد ما يشبع نهمي القرائي إلا فيما تحصلت عليه من بقايا قصص وكتب كانت تعرض في حراج الطائف للخردوات الواقع في باب الريع في الموقع الذي بني عليه جامع الملك فهد رحمه الله ، وقد كان أحد البائعين في الحراج آنذاك العم أبو أحمد اليماني وهو يمني الجنسية لا يمانع من جلوسي وغيري من الصبيان إلى جوار معروضاته من الكتب والصحف وبعض الأدوات المكتبية المستخدمة والاطلاع عليها وتصفحها حتى وإن لم نقتنيها عن طريق الشراء ، وكنت أواظب في الذهاب إلى بسطة أبي أحمد اليماني لإشباع رغبتي في القراءة والاطلاع ، وقد شدني في المجموعات القصصية التي كان يعرضها على الرصيف قصة ماجدولين وبعض مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وبعض قصص المغامرات البوليسية المترجمة والتي اشتريت منها مجموعة ليست بالقليلة . وقد تأثرت كثيرًا بالأساليب الأدبية التي تضمنتها قصة ماجدولين التي قام بتعريبها الأديب مصطفى المنفلوطي عن القصة الفرنسية تحت ظلال الزيزفون للكاتب ألفونس كارل ، وأذكر أنني حاولت مقلدًا الكتابة في مجال القصة والرواية من وقت مبكر من عمري خلال المرحلة المتوسطة لكنني لم استبق شيئًا مما كتبت من محاولات متواضعة، إلا أن تلك السنوات من عمري كانت المرحلة الفاعلة التي انطلقت فيها قارئًا ومتابعًا لكل المعروضات على رصيف الحراج في بسطة العم أبي أحمد اليماني ، وداومت فيها على ارتياد مكتبة المعهد العلمي واستعارة بعض الكتب الأدبية منها ، فتشكلت طوالع هويتي الثقافية التي أثرت على نشاطاتي في المعهد العلمي وخارجه آنذاك ، حيث كنت عضوًا نشطًا في الإذاعة المدرسية وفي فرقة المسرح حتى نجحت في تأليف بعض النصوص المسرحية لها ، وقد اختار منها مشرف نشاط المسرح نصًا شاركت في ثمثيله مع بعض الزملاء في المجموعة وتم عرض المسرحية في أحدى احتفالات المعهد المعتادة في نهاية العام الدراسي . وتلاها تجربة أخرى ناجحة في المرحلة الثانوية ، ومارست في تلك الفترة كتابة الشعر الشعبي والشعر المغنى تأثرًا بما كنت أسمع من أغاني شعبية لبعض الفنانين المشهورين آنذاك كالفنانين حجاب وطاهر الحساوي وطلال مداح وطارق عبدالحكيم ومحمد عبده وتوحة وحيدر فكري وابتسام لطفي وفوزي محسون وفتى الشرقية وسلامة العبدالله ونحوهم ، وأتممت أول ديوان شعري من تأليفي قبل أن أتمم المرحلة المتوسطة ولم يكتب لهذا الديوان البقاء ولم أعد أتذكر مما كتبته فيه شيئًا ، حيث فقدته مع بعض القصص التي اقتنيتها من الحراج في رحلة زيارة للحراج ذاته ، وكررت محاولاتي في تأليف القصص القصيرة والشعر الشعبي بعد ذلك خلال المرحلة الثانوية لكنها كانت محاولات تفتقد إلى الكثير من المعايير الأدبية التي تؤهلها للظهور أو النشر . وكانت أول قصيدة تنشر لي من الإذاعة العراقية من برنامج منكم وإليكم الذي كان يبث مابين الساعة الثالثة والرابعة من بعد ظهر كل يوم خميس في عام 1395هـ ، وقد تلقيت مئات الرسائل على عنواني الذي أذيع بعد إذاعة القصيدة ، وأذكر أن دكان الحبابي في شارع مزدلفة القريب من منزلنا كان العنوان الذي أرسلته مع القصيدة إلى الإذاعة وقرأه المذيع بعد قراءته القصيدة مصحوبة بمؤثرات موسيقية جاذبة ، وكانت ترد إلي على ذلك العنوان الكثير من رسائل المعجبين وطالبي الصداقة من الكثير من الدول العربية غالبيتهم من الفتيات أو من المدعين بأنهم كذلك وكانت ترد مع الرسائل الكثير من الصور الفوتوغرافية التي كونت منها ألبومًا كنت أفاخر به عند إطلاع بعض أصدقائي المقربين عليه ، وكان لا بد لي في تلك الفترة من التجاوب مع تلك الرسائل الواردة بالرد عليها ، وأذكر أنني كنت مخلصًا في الوفاء بالرد على جميع ما ورد إلي من رسائل . وقد تعلمت كثيرًا من تلك المرحلة التي شهدت انطلاقتي في مجال القراءة والاطلاع واقتناء الكتب الأدبية والروايات والقصص وتجربة الكتابة في مجالات الثقافة والأدب المتنوعة مثل كتابة القصة والمسرحية والقصيدة الشعبية والرسائل ونحوها ، كما أنني أصبحت بفضل الله تعالى بعد هذه المرحلة من محبي المكتبات والجلوس فيها للقراءة والاطلاع وخاصة المكتبات العامة والجامعية وظل هذا المسلك مستمرًا معي إلى ما بعد حصولي على الدكتوراه في التربية وتكليفي بأعمال قيادية عليا في وزارة التربية والتعليم شغلتني عن زيارة المكتبات والقراءة الثقافية والاطلاع على الكتب . وقد عدت إلى بعض هواياتي والحمد لله بعد تحرري من العمل وانطلاقي في فضاء الحرية الشخصية أثر تقاعدي المبكر ، والنصيحة التي أضمنها هذه الوقفة للجيل المعاصر والمستقبل هي الحرص على الاستفادة مما توافر من مصادر تعلم ميسرة عادية وإليكترونية تمكن من القراءة والاطلاع على مختلف الكتب والمؤلفات والبحوث والدراسات في شتى العلوم وميادين المعرفة ، فالقراءة من وجهة نظري المتواضعة هي مفتاح العلم وهي مجال التعلم المؤثر في تكوين الاتجاهات وتنمية القدرات الفكرية والأدبية والثقافية المتنوعة ،ومجتمع لا يقرأ أفراده يظل في العلم فقيرًا وفي الإبداع متأخرًا وفي التطور والنماء مقلاً ، وأدعو الله تعالى أن يوفق أولادنا إلى الإفادة مما تيسر لهم من وسائل التعليم والتعلم وأن يجعلهم من القارئين والباحثين عن الحكمة والمبدعين في مجالاتها ،، والله الموفق والمستعان .،،،

السبت، 23 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (12)


الوقفة الثانية عشرة : دراجون في الركبان
في العام الهجري 1393هـ بينما كنت في الصف الأول المتوسط بالمعهد العلمي بمدينة الطائف كنت أقطع المسافة بين البيت الذي نسكنه بالاستئجار الواقع في حي الشرقية بشارع مزدلفة قريبًا من قصر عرب وشارع خالد بن الوليد إلى المعهد العلمي الواقع في حي شبرا الواقع إلى الخلف من قصر شبرا الشهير مشيًا على الأقدام ذهابًا إلى المعهد وعودة إلى البيت وكان والدي وفقه الله قد رافقني في الأيام الأولى للتعرف على الطريق الآمن من بين المنازل أو من الطريق الذي يمر بأطراف الركبان حتى الوصول إلى المعهد .
– والركبان قطع من الأراضي الزراعية بعضها مزروع وكثير منها مهجور يفصل بينها أكوام من التراب ترتفع لمتر أو مترين ، وفيها كثير من ملاعب كرة القدم الترابية ، وهي تقع إلى الشرق من مواقف سيارات التاكسي الأجرة الموصلة إلى مكة المكرمة وجدة والرياض ، وتمتد حتى بداية طريق السيل ، وفي طرفها الشرقي يقع قصر شبرا الشهير وقد تحولت اليوم إلى مباني وأبراج وأسواق وشوارع – وقد استحسنت الطريق الذي يمر بالركبان لما شاهدته عليه من مناظر المزارع في بعض الركبان بعيدًا عن خطورة السيارات ، وعند العودة من المعهد أرى الكثير من طلاب المدارس يمتطون دراجاتهم ويتسابقون في الطرقات عائدين إلى منازلهم ، وكنت أحلم بركوب الدراجة وأتمنى التمكن من مهارات أولئك الصبية الدراجين ، وامتلاك مثل ما يمتلكون من الدراجات .
مر العام ولا يزال الحلم في مخيلتي لا يغادرها كلما رأيت الدراجات والدراجين ، وفي آخر العام تعرفت وأخي الأوسط محمد وفقه الله تعالى وكان آنذاك في الصف الأول الثانوي بدار التوحيد ، تعرفنا على مؤجر للدراجات إلى القرب من حدائق نجمة حيث يمكن للمستأجر خلال وقت الاستئجار الذهاب إلى الركبان التي تحول بعضًا منها إلى ملاعب لكرة القدم للكبار وأذكر أن نادي عكاظ كان له مساحة مخططة في الركبان يمارس اللاعبون المنتمون إليه تمارينهم عليه ، وإجار الدراجات كان بالساعة أو الجزء منها ويحسب المؤجر الوقت عند تسليم الدراجة للمستأجر ثم يحسبه إذا عاد لتسليمها ويقرر قيمة الأجرة وفقًا لما قضاه المستأجر من الوقت ، وبعد أن تعرفنا على شروط الاستئجار ونظامه لدى المؤجر قررنا استئجار دراجتين وفقًا لمقاس كل منا ، وبالفعل دفعنا قيمة التأمين التي كانت كبيرة قياسًا لما يمكننا امتلاكه من المال ، وأذكر أن قيمة التأمين في ذلك الوقت كانت خمسين ريالا تعاد للمستأجر بعد حسم قيمة تأجير الدراجة وفق الزمن المستهلك ، وقد كان أخي وفقه الله قد ادخر من المال ما يكفي لدفع قيمة التأمين ، وبعد إتمام عملية استلام الدراجات انطلقنا بها ندفها تارة ونركبها تارة أخرى وأرجلنا لا تغادر الأرض خوفًا من السقوط ، وسرنا بها حتى بلغنا أطراف الركبان من الجهة الغربية قريبًا من منطقة الاستئجار شرق مواقف سيارات التاكسي الأجرة إلى مكة المكرمة وجدة والرياض .
وبدأنا مرحلة التعلم على ركوب الدراجات نسقط تارة ونفلح تارة أخرى في القيادة ، وكررنا تلك المحاولات حتى أتقنا قيادة الدراجة ، وفي المرات التالية وبعد أن جمعت من مصروفي المدرسي وهدايا النجاح مبلغ التأمين اللازم لاستئجار الدراجة كنت بين الفترة والأخرى أذهب لاستئجار دراجة والانطلاق بها بين المنازل في الحارات المجاورة وفي الركبان حتى أتقنت قيادة الدراجات ، ولكن حلمي بامتلاك دراجة ظل معي إلى أن تخرجت من المعهد العلمي ولم يتحقق .
ومن الطرائف التي حصلت لي في تلك الفترة ما وقع أثناء تجوالي بالدراجة المستأجرة في حارة البخارية إذ استوقفني بعض الأولاد في تلك الحارة وطلبوا مني الترجل عن الدراجة حيث ادعى أحدهم بأن الدراجة التي أمتطيها هي دراجته ، وحضر المشادة الكلامية التي تحولت إلى مصارعة على الدراجة بعضًا من الكبار الصالحين في ذلك الحي ، وعندما استمعوا إلى إفادة المدعي وإفادتي بشأن الدراجة وأنها مستأجرة ، صدر حكمهم بتكليف أحدهم بمصاحبتي إلى مؤجر الدراجات للتأكد من صدقي ، وكان المدعي يستدل بعلامة في الدراجة هو ووالده الذي أيده في ذلك أثناء حضوره المشادة ، وبالفعل انطلقت مع المكلف بالتأكد ومعنا المدعي ووالده ، وعندما وصلنا إلى المؤجر أكد ما أفدت به ، وأعاد إلى التأمين فورًا ، وبدأت حلقة جديدة من المشادة بين المؤجر ووالد المدعي حول ملكية الدراجة ، حيث أفاد المؤجر بأن هذه الدراجة اشتراها في ذلك اليوم من أحدهم ، وأصر والد المدعي على إحضار البائع والتعريف به أو إرجاع الدراجة لابنه ، وأسقط في يد المؤجر الذي قال صارخا خذوا الدراجة ويعوض الله علي في المال الذي دفعته مقابل شراء الدراجة أنا لا أعرف البائع ولم أطلب منه إثبات هويته ، فقد قبض مبلغ المبايعة وانصرف وأنا لا أعلم أهذه الدراجة له أم سرقها وتعاملت معه بحسن النوايا فقط ، إثرها أخذ صاحب الدراجة دراجته وانطلق مع والده .
وقد تعلمت من ذلك الموقف درسًا في أهمية التأكد من هوية كل من أتعامل معهم في بيع أو شراء فتلك أمانة ، كما أنني خلال مدة تعلمي قيادة الدراجات واللهو بها تمكنت من التعرف على أغلب حارات مدينة الطائف آنذاك ، وتعرفت على الشوارع والأزقة فيها وأهم المعالم التي تميزها ، وكان يسكن الطائف آنذاك أعداد كبيرة من أفراد القبائل القريبة من الطائف مثل بني سفيان وهذيل وقريش ونمير وهوازن وثقيف وبني سعد وعتيبة وبالحارث وزهران وغامد ويتواجد الكثير من البخارية والسليمانيين والأفغان واليمنيين قبل أن يتم تصحيح أوضاعهم بعد حرب الخليج ، وكانت الدراجات وسيلة من وسائل المواصلات المهمة في ذلك الوقت للصغار والكبار وخاصة البائعون المتجولون والعمال ، وقد تحقق لي ولله الحمد في مدينة الطائف التعرف على الكثير من العادات والتقاليد والأعراف إضافة إلى ما اكتسبته في سنوات نشأتي الأولى بقرية الحكمان ، فكانت الحياة في المدينة كما كانت الحياة في القرية مؤثرًا من المؤثرات التي انعكست على شخصيتي وسلوكياتي في المستقبل ، وقد تصاحبت مع الكثيرين من زملاء الدراسة وأولاد الجيران في مدينة الطائف والذين لا يزال تواصلي مستمرًا مع الكثيرين منهم إلى اليوم وأعتز وأفتخر بصداقتهم ووفائهم ، وأدعو في هذه الوقفة إلى الاهتمام بتعليم الأولاد ما ينفعهم وتشجيعهم على الصداقة الوفية فرب أخ لك لم تلده أمك ، وكم من الأصدقاء من كان أوفى من الأشقاء ، والله الموفق والمستعان . ،،،

السبت، 16 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (11)



الوقفة الحادية عشرة : بين سينما نجمة وسينما عكاظ
في نهاية العام الهجري 1392هـ تخرجت في مدرسة الحكمان الابتدائية في الوقت الذي لا تزال قريتي خالية من الكهرباء ولا يزال الأهالي يستخدمون وسائل الإضاءة التقليدية وترتب على ذلك جهلنا التام بوسائل الإعلام المرئية المتوافرة آنذاك في المدن مثل التلفزيون والسينما ، وقليل من أهالي القرية من يملكون الراديو الذي يعمل بالبطاريات ، وكنا نطلق على البطاريات حجار الكشافة ، لآن الغالب على استخدامها كان في مصابيح النور الكاشف اليدوية التي تعمل بالبطاريات آنذاك .
فبعد تخرجي من المرحلة الابتدائية وتزامن ذلك مع تخرج أخوتي الكبار من المرحلة المتوسطة قرر والدي وفقه الله وأحسن خاتمته أن يلحقنا بالمدارس ذوات المكافآت في مدينة الطائف فخير أخوتي الكبار حيث اختار أخي سعيد وفقه الله معهد إعداد المعلمين بينما أختار أخي محمد وفقه الله ثانوية دار التوحيد ، أما أنا فقد اختار لي والدي الالتحاق بالمعهد العلمي ، وقد انتقل عمل والدي آنذاك إلى مدينة الطائف برغبته ليكون إلى جوارنا ومشرفًا علينا ، فأضطر في العام الأول أن يسكن بعيدًا عن أسرتنا في مدينة الطائف ويتولى خدمتنا بنفسه .
وقد كانت اللحظة الأولى التي أدخل فيها مدينة الطائف قبل ذلك بعامين تقريبًا بينما مررنا بها في طريقنا إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، وكنت قد سجلت في المشهد الأول مجموعة من الذكريات وأنا على ظهر اللوري الذي نقلنا مع المعتمرين ومنها على سبيل المثال مشهد الحصان الذي يجر عربة البضائع ، والدراجات التي يستخدمها الكبار والصغار والسيارات المتنوعة وهي تسير على طريق مسفلت في شوارع تحف بها المحلات التجارية وتتوسطها أرصفة مشجرة ، وصوت بعض الباعة المتجولين الذين كانوا يبيعون المعمول والبسبوسة والمنتو واليغمش واللبان ونحوها ، لكنني في المشهد الثاني الذي رافقت فيه والدي وأخوتي إلى مدينة الطائف رأيت ما هو أكثر من مظاهر الحضارة التي لم نألفها في القرى ومنها التلفزيون في المنازل وفي المقاهي والتلفونات ، ودور السينما والحدائق والمسابح والأندية والقصور التاريخية كقصر شبرا وقصرعرب ، والقلاع التاريخية كقلعة باب الريع والمثناة ، ومواقف سيارات الأجرة التي تنقل المسافرين من الطائف إلى مكة المكرمة وجدة وإلى الرياض ، والأسواق المنظمة مثل سوق الهادي وسوق العباس والحراجات ، والمنشيات أو أسواق الخضار والفواكه واللحوم مثل منشية الشرقية ومنشية الشهداء ، والمساجد التاريخية مثل مسجد ابن عباس والمساجد الحديثة كمسجد الهادي ، ومستشفى الملك فيصل الذي كان يتوسط مدينة الطائف ، وتعدد الأحياء والحارات مثل حارة اليمانية والبخارية والشرقية والبلد والشهداء الشمالية والشهداء الجنوبية والسليمانية وشهار وحارة أبوبكر ونحوها ، كل هذه المظاهر كانت كالحلم بالنسبة للطفل في مثل سني آنذاك .
لكن أكثر ما استقر بذاكرتي تلك الليالي التي كان يصطحبني فيها أخي الأكبر سعيد وفقه الله إلى المقهى لمتابعة مسلسل وضحى وابن عجلان أومسلسل ستيف أوستن الأسبوعية ، وكانت المقاهي تتجاور على شارع الملك فيصل بجوار حديقة نجمة والتي كانت معلمًا حضاريًا في قلب المدينة وبالقرب من ساحة ابن عباس الشهيرة ، وكانت سينما نجمة من أشهر دور السينما في مدينة الطائف ولا تبتعد كثيرًا عن المقاهي حيث تقع إلى الخلف منها في اتجاه حديقة نجمة ، وأذكر أن أول مرة دخلت فيها السينما كانت مع أخي الأكبر وبعض أصدقائه ولا أزال أذكر تلك الأفيشات – الصور الدعائية للأفلام – معلقة في حائط السينما من الخارج وبأحجام كبيرة لجذب هواة الاستمتاع بمشاهد الأفلام السنمائية ، لا أذكر اسم الفيلم العربي الذي شاهدته لأول مرة لكنني أذكر أن من أبطاله الفنان فريد شوقي والفنانة نبيلة عبيد ، وصورهما تظهر مكبرة على لوحات الدعاية للفيلم .
وكان من المعتاد في دور السينما أن يشغل الفنيون فيلمًا سبق تشغيله في أيام سابقة في المدة التي تسبق الزمن المحدد لعرض الفيلم الجديد للمشاهدين الذين يبكرون في الحضور ، وصادف أن كنت مع أخي وأصحابه ممن بكر في تلك المرة بزمن لا يقل عن ربع ساعة وشاهدت خلالها لقطات من فيلم أجنبي لجمس بوند شدني بالفعل أكثر مما شدني الفيلم الرئيس للعرض ، وبعد مشاهدتنا للفيلم المعروض في فترة العرض الأولى والتي استمرت إلى موعد صلاة المغرب تقريبًا انصرفنا من السينما إلى المنزل وكان لا بد أن أحفظ السر الذي حملته من أخي بأن لا أتحدث عن ذلك أمام الوالد حتى لا نتعرض للعقوبة فقد كان والدنا وفقه الله محافظًا ملتزمًا ولا يحب ارتياد المقاهي ولا دور السينما ولا يحبها كذلك لأبنائه.
وفي المرة الثانية صحبت أخي الأوسط محمد وفقه الله إلى مسبح عكاظ الذي تتواجد إلى الجوار منه سينما عكاظ ، وعند وصولنا إلى بوابة السينما ومشاهدة لوحات الدعاية لفلم أجنبي أخبرت أخي بأنني قد ذهبت مع أخي الأكبر إلى سينما نجمة وكان الفيلم الأجنبي مثيرًا تقدمنا نحو بوابة دار السينما وسألنا عن رسوم الدخول والأوقات للعرض وعدنا أدراجنا بعد أن شاهدنا مسبح عكاظ وبعض الشباب والأطفال يسبحون ويلعبون إلى جواره بعض الألعاب الجماعية مثل كرة السلة وكرة الطائرة ونحوها .
وبدأنا التخطيط لجمع المبلغ الذي نحتاجه لرؤية فيلم أو فيلمين في سينما عكاظ وبالفعل في نهاية الشهر وبعد أن منحنا الوالد من مكافآتنا التي كنا نتحصل عليها من المعهد العلمي ودار التوحيد مصروفنا الشهري ، انطلقت مع أخي محمد وفقه الله إلى سينما عكاظ وشاهدنا فيلمًا أجنبيًا لا أذكر بالفعل مجمله ولا تفاصيله ، لكنني أذكر بالتحديد تلك المغامرة واتفاقنا على أن نخفي ذلك ونكرره متى توافرت لدينا قيمة التذاكر.
لقد قضيت العام الأول عزوبيًا مع والدي وإخواني وكنت أشاركهم في أعمال المنزل وأشاركهم بعض رحلاتهم في الركبان أمام قصر شبرا وفي وادي وج الذي لم يكن يليه من الجهة الجنوبية سوى تلال ومزارع ، كنا نذهب إليها سيرًا على الأقدام للتنزه أو للمذاكرة ، كما كنا نداوم إلى مدارسنا سيرًا على الأقدام ذهابًا وأيابا ، وكانت الطائف مدنية بالنسبة للقرويين من أمثالنا لكنها في مقاييس المدينة اليوم كانت حاضرة متواضعة ولم تكن الطائف في حجمها آنذاك تساوي عشر ما هي عليه اليوم ، وكنا نجوبها من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها سيرًا على الأقدام ، وقد كان لي في هذه المدينة الكثير من الذكريات ولا تزال الكثير منها في ذاكرتي إلى اليوم ولعلي أعرج في وقفاتي التالية على بعض منها .
والشاهد في هذه الوقفة شيوع توافر السينما في بعض المدن في تلك الحقبة الزمنية وتوافرها أيضًا في بعض المدارس ودور العلم ، لكنها ما لبثت أن استنكرت وطويت صفحتها ضمن الممنوعات في بلدي ، ولا أزال أستغرب استنكار تواجدها في الوقت الذي توافرت في المنازل اليوم من الأجهزة والوسائل ما يشبهها خاصة مع تطور صناعة الشاشات وأجهزة العرض (البروجكتور) ونحوها ، ونوافق المتحفظين على الاختلاط تحفظهم ، لكننا يمكن أن نتيح المجال لدور العرض السينمائية دون اختلاط كأن تخصص دور للرجال وأخرى للنساء ، ففي وجهة نظري المتواضعة يمكن أن تكون دور السينما متى ما وجهت نحو أهداف سامية بما يتوافق مع القيم الإسلامية مصادر معلومات وثقافة وتعلم للأجيال ، وأحترم الرأي الآخر أيضًا في كل الحالات ،، والله الموفق والمستعان .،،،

الجمعة، 8 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (10)


الوقفة العاشرة : بائعون على جانبي الطريق
في السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية تم تشغيل طريق الطائف الجنوب المسفلت المار بالجهة الشرقية من قريتي قرية الحكمان مارًا برهي أم الطير – ورهي جمع تكسير لرهوة وهي المكان المرتفع قليلا من الأرض – المتاخمة من الشرق لوادي دحيس ووادي الشكالبة ووادي آل زياد بتشديد الياء الواقعة شرق القرية والتي تقع فيها الكثير من أملاك أهالي قرية الحكمان من القطع الزراعية المسقية والجبلية ، وتكثر في هذه الأودية أشجار اللوز الحجازي ولا تكاد أسرة في قرية الحكمان إلا وتملك من أشجار اللوز ما ينتج لها سنويًا ما لا يقل عن عشرة أمداد أي ما يقارب المائة كيلوغرام .
كما أن الكثيرين من أهالي القرية يمتلكون البعض من أشجار الصبار الجبلي وتسمى في البيئة القروية بشجرة التين بينما نطلق على شجرة التين المعروفة مسمى الحماط وبذلك يتم التفريق بين الشجرتين في أعرافنا القروية ، وشجرة التين هي ذات الشجرة التي يطلق عليها مسمى البرشومي في نواحي الطائف ومنطقة بني سعد وثقيف وهوازن ، وكلتا الشجرتين أقصد شجرة اللوز وشجرة الصبار البرشومي لها نتاج سنوي يعمل الأهالي على جني ثمارها لأغراض متنوعة ، فشجرة اللوز تجنى ثمراتها في مواسمها بالتعاون بين الأسر حيث يشارك الصغار في الجني والتقاط الساقط من الثمرات نتيجة الجني وتجميعه .
وعادة ما يكافأ الصغار المشاركين في عملية الجني آخر النهار بإعطائهم من الثمرة ، وينشط الكثيرون من الصغار في موسم الجني في تسلق شجرات اللوز المجنية من ملاكها لتبرئتها من الباقي فيها من الثمرات بعد الجني ، ونستمر نحن الصغار نجمع ما نحصل عليه في المشاركة في الجني وما نحصل عليه بتبرئة الأشجار المجنية قبلا ، وقد يجمع الواحد منا في الموسم الواحد ما يزيد على مدين أو ثلاثة أي ما قد يصل إلى عشرين أو ثلاثين كيلو غرام ، ونستخدم ما جمعناه في العادة بالمقايضة به مع بائعي العنب والفواكه القادمين إلى القرية من وادي تربة زهران لبيع محصول مزارعهم في القرية بالنقد أوالمقايضة بالحبوب واللوز ، أما الأهالي فيستهلكون ناتج أشجار اللوز المتوافرة لديهم والبعض منهم يبيع بعضًا من ناتجها على تجار اللوز واللباب ويوفرون بثمنه متطلبات واحتياجات أخرى ، أما شجرة الصبار التين البرشومي فهي شجرة جبلية عثرية أي لا تسقى إلا بماء الأمطار ولا تكاد أسرة في القرية إلا ولها بعض من تلك الشجيرات في أطراف مزارعهم أو قريبًا من بيوتهم ، وتستهلك الأسر ناتجها من البرشومي ولا يباع ناتجها ولا يشترى ، ولذلك قد ترى فساد الكثير من ثمرات البرشومي في أمهاتها في آخر مواسمها نتيجة عدم جنيها قبل فسادها ، أما أشجار الحماط وهي أشجار التين المعروفة فيكثر نموها في بطون الأودية بين المزارع وعلى الحواجز بينها وتنتج ثمرات أصغر في الحجم من ناتج المسقي منها أو المزروع لكنها أطيب وألذ طعمًا ، وهي لا تباع أيضًا ولا تشترى وإنما تستهلك من العامة الراغبين في استهلاكها بعد جمعها .
وأذكر أنني قد اتفقت مع بعض أقراني لممارسة عملية البيع على طريق الطائف الجنوب المسفلت الذي يمر كما ذكرت بالوادي الشرقي للقرية ، وعقدنا العزم بأن تكون معروضاتنا في البيع ثمرات اللوز والتين البرشومي والحماط ، وبدأنا رحلة جمع الثمرة ووضعها في أوعية من علب الصفيح ، وكان اليوم الأول من تجربة البيع إذ اصطففنا إلى جوار بعضنا البعض وأمام كل منا معروضاته من الثمرات ننتظر الراغبين من سائقي السيارات المارة في الشراء ، وقد كان ارتياد السيارات لذلك الطريق من القلة حتى أننا لننتظر في بعض الأحيان ما يزيد عن الخمس دقائق دون أن تمر بنا سيارة في الإتجاهين الذاهب والآيب ، وقد نضع آذاننا على الأسفلت للاستماع لصوت سيارة قادمة ، وما أن انقضى اليوم الأول إلا وقد بعت من ثمرات اللوز التي جمعتها نتيجة المشاركة في الجني وتبرئة الأشجار ما يعادل خمسة ريالات وباع بعض أقراني بعضًا من معروضاتهم لكننا فشلنا في تسويق ثمرات التين البرشومي والحماط ، وقد عدنا أدراجنا ذلك اليوم بعد أن اكتسبنا بعض المهارات التي تتطلب الصبر والانتظار وحسن العرض والترويج للبضائع ، كما عدنا بفائدة عدم جدوى المتاجرة فيما يتوافر مجانًا في البيئة القروية ، وقد كررنا عملية البيع على الطريق أكثر من مرة بعد تحسين أساليب العرض والتخلص من المنتوجات غير المرغوبة .
وأذكر أنني في ذلك العام بعت على الطريق جميع ما جمعته من ثمرات اللوز ولم يكن الثمن كبيرًا لكنه كان تجربة مثيرة لمن هو في مثل عمري آنذاك ، لقد كانت مبادرة منا نحن المجموعة ولم نكن قد رأينا تجربة مماثلة قبلا ، عدا ما شاهدناه في سوق الربوع الأسبوعي في بلدة الأطاولة ، لكننا لم نكرر التجربة في الأعوام التالية بينما أقدم عليها بعض الأقران تقليدًا ومنهم من نجح في محاولته والكثيرون منهم لم تفلح محاولاتهم .
وبعد أن كبرت قليلا وانتقلت من القرية إلى مدينة الطائف كنت أشاهد على الطريق بعضًا من البائعين لبعض المنتوجات الزراعية فأتذكر تلك المحاولات الأولى لي ولبعض أقراني في الوادي الشرقي ولا أزال أتذكر تلك المحاولات كلما رأيت بائعين على الطرقات ، وكنت ولا أزال أقدر كثيرًا من يقوم بمثل هذا العمل التجاري لعلمي بأن ما يقومون به من العمل الشريف لطلب الرزق ، وعندما أقف على معروضات أحدهم بهدف الشراء لا أجادل كثيرًا في السعر المعروض بل اشتري البضاعة المرغوبة منهم بالسعر الذي يعرضون وقد أزيد البعض منهم وفق تقديري لقيمة البضاعة المماثلة لها في السوق العامة .
لقد عشت وأقراني ولله الحمد مرحلة طفولة قروية معلمة اكتسبنا فيها الكثير من المهارات التربوية والحياتية كما اكتسبنا فيها الكثير من القيم الإسلامية والاجتماعية المؤثرة ، وإنني ممن يؤمن بأن ما يكتسبه الأطفال من مهارات حياتية يظل مؤثرًا قويًا في تكوين شخصياتهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم المستقبلة وقد ينشط أو يخبو هذا التأثير نتيجة المؤثرات الثقافية والاجتماعية والعقدية لكن ذكريات الطفولة يظل لها حنين دائم لدى الكثيرين ممن مروا بتجارب متنوعة ومعلمة .
وقد أعرج في الوقفات التالية على بعض المواقف التي أحدثت تأثيرًا قويًا في شخصيتي حيث استمرت معي صفة حب المغامرات والاكتشاف والمشاركة في العمل من سن مبكرة وحتى كبرت حيث عملت في مواسم الحج المتعاقبة كما عملت في حفر الآبار وفي جني ثمار التمر وقطع نواتج النخيل كمهارات تعلمتها بالعمل في مزارع النخيل خارج حدود قريتي التي احتضنت طفولتي ، وفي الطائف حيث استقر بي المقام مع أسرتي في المرحلتين المتوسطة وبعض المرحلة الثانوية كنت استثمر كغيري من الطلاب أوقات إجازة الحج وإجازة الصيف في الأعمال بمواسم الحج وفي الأعمال الأخرى والوظائف المؤقته وكان لي بعض الذكريات والوقفات التي لا تزال باقية في ذاكرتي ، وكذلك الحال في المرحلة الجامعة في مكة المكرمة وما تلاها من مراحل العمل والجهاد الوظيفي ،، آمل أن أوفق في تدوينها جميعًا قبل نسيانها ،، والله الموفق والمستعان ،،،