الجمعة، 6 مايو 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (14)




الوقفة الرابعة عشرة : فرصة العمل الأولى في موسم الحج
في الأعوام التي قضيتها طالبًا في المرحلة المتوسطة مابين الأعوام 1393-1395هـ اعتاد الكثيرون من أبناء الأسر متوسطة الدخل على العمل في مواسم الحج وتنوعت مقاصدهم في العمل كما تنوعت أعمالهم بتنوع مهاراتهم وكفاياتهم العملية ، إلا أن غالبيتهم كان يقبل على العمل مع المطوفين الموكل إليهم خدمة الحجاج والمعتمرين قبل تأسيس مؤسسات الطوافة الحالية ، ومنهم من يعمل لحسابه الشخصي في البيع على أرصفة الشوارع للمشروبات والمأكولات الخفيفة أو بيع الهدايا والمسابح والسجاجيد والمعروضات الخفيفة التي كان الحجاج يقبلون على شرائها .
أو حمل كمرات التصوير الفورية والقيام بتصوير الراغبين من الحجاج والمعتمرين في التقاط صور تذكارية لهم إلى جوار المسجد الحرام أو القيام بدفع عربات كبار السن في المسعى ، أو القيام بتطويف الحجاج وترديد الأدعية التي كان الحجاج يرددونها خلف المطوف أثناء الطواف ، أو العمل أدلة لإرشاد قائدي حافلات نقل الحجاج بين المشاعر إلى الطرق ومواقع التفويج ، أو العمل في الإرشاد والتوجيه ضمن فريق العمل بالرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين ، أو العمل أجراء في الأعمال المتاحة في موسم الحج. وكانت الأجرة ومكاسب البيع في مواسم الحج ليست بالكبيرة لكنها فرصة عمل تستثمر من قبل المشتغلين في موسم الحج واستثمار الإجازة في نفع الناس ونفع الذات بجمع المال من العمل المباح ، وقد أذن لي والدي وفقه الله تعالى في حج عام 1393هـ بمرافقة أخوتي الكبار للنزول من الطائف إلى مكة المكرمة للمشاركة في العمل بموسم الحج شريطة أن يكون الإشراف علي من قبل زوج خالتي غفر الله لهما والذي كان يعمل في بريد مكة المكرمة آنذاك وأن تكون إقامتي في بيت خالتي غفر الله لها ، وكانت تجربة العمل الأولى التي أتيحت لي في موسم حج ذلك العام هي كتابة الرسائل للحجاج إلى جوار بريد الصفا الواقع في جبل أبو قبيس مقابل الصفا في الموقع الذي أقيمت عليه القصور الملكية الآن ، وبيع بعض الأدوات المكتبية اللازمة لإرسال الرسائل البريدية مثل الأوراق والظروف المغلفة للرسائل والأقلام والأصماغ ونحوها . وأذكر أن من المواقف الطريفة في ذلك أن أقبل علي حاج جزائري وطلب مني أن أكتب له رسالة فكان هو يمل وأنا أكتب وقد كانت لحظة عصيبة عندما طلب مني قراءة الرسالة التي استمريت معه في كتابتها أكثر من نصف ساعة وأعاد الكثير من الكلمات التي أملاها عشرات المرات ، فعندما شرعت في قراءة ما كتبت فتح الحاج فاه وجحظت عيناه فلا ما كتبت يتوافق مع ما أملاه ولا ما قرأته يفهم معناه ، وغضب وانسل متحسرًا على نصف ساعة قضاها معي في كتابة تلك الرسالة الشاقة فأهل المغرب عامة والجزائريين سكان الصحراء خاصة يصعب على الراشد تمييز ما يقولون لاختلاط لغتهم العربية بالأمازيغية والفرنسية ، وتبدو الأسماء من الغرابة بحيث لا يتقن كتابتها الكبار . وقد تعلمت الدرس الأول من ذلك الموقف ألا أجازف بالوقت في أمر لا أتقنه ، واستمر عملي خلال أيام الحج حيث أنطلق صباحًا وأفترش الرصيف إلى القرب من بوابة البريد وأستمر في ممارسة العمل حتى بعد صلاة العشاء حيث أنطلق إلى بيت خالتي غفر الله لها مع أحد أخوتي أو أبناء خالتي الذين كانوا يعملون في الحرم وإلى جواره في الأعمال المتاحة لكل منهم ، وخلال ذلك العام تعرفت على بعض تجارب العمل المتاحة مما أثر في تنويعي للأعمال التي مارستها في مواسم الحج بعد ذلك . وأذكر أنني خلال المرحلة المتوسطة مارست في موسم الحج عمل بيع الشاي والقهوة على الرصيف قريبًا من المروة ، ومارست عمل التصوير الفوتوغرافي للحجاج في المنطقة المحصورة خارج المسجد الحرام بين الصفا والمروة ، وتطورت مهاراتي في سنوات المرحلة الثانوية حيث عملت في مجال إرشاد الحجاج والطوافة ودفع العربات وكنت أجمع بين أكثر من عمل في الموسم الواحد وأوزع الزمن المتاح عليها وتطورت مستويات المردود المادي العائد من العمل في مواسم الحج بتطور الخبرة والممارسة سنة بعد أخرى إلى أن أصبحت سكرتيرًا لمطوفي حجاج المغرب العربي آنذاك الشيخان إبراهيم وحسين المنصوري ، وقد كان لي في تلك التجارب أكثر من وقفة لعلي أفصلها في وقفات خاصة ، ومما لا يغادر ذاكرتي رغبتنا الملحة لاستثمار أوقات الإجازات خلال سنوات المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعة في العمل المؤقت سواء أكان بالأجر اليومي أو بالأجر الشهري ابتغاء التعلم واكتساب الخبرات وادخار ما نصرفه على متطلباتنا ومستلزماتنا المتنوعة لقلة البدائل الواردة من الوالدين لدى الكثير من الأسر متوسطة الدخل آنذاك. ففي الإجازات الصيفية أتيحت لي كما أتيحت لبعض أفراد جيلي فرص العمل المؤقت في بعض الشركات عن طريق مكاتب العمل التي كانت تعرض مجموعة من فرص العمل المؤقت قبيل بدء فترة الإجازة الصيفية ، كما أتيحت لنا فرص العمل بالجهود الشخصية في أعمال البناء والتعمير وفي مواسم حصاد التمور وقد استثمرناها فعلا وتعلمنا منها الكثير من مهارات العمل والمهارات الاجتماعية والحياتية المتنوعة ، ولا أذكر أنني بقيت دون عمل في أي من مواسم الحج والإجازات الصيفية حتى تخرجت في الجامعة وكان لكل عمل من الأعمال التي مارستها ميزته الخاصة في إكساب الخبرة والمهارة وقد تأثرت بها جميعًا في حياتي حتى اليوم ، وحرصت على أن يتلقى ابني الأكبر رامي وفقه الله بعض خبراته واكتساب مهارات الحياة من المشاركة في العمل منذ المرحلة الثانوية بعد عودتي من الإيفاد للعمل بدولة روسيا الاتحادية، وقد لمست فيه حفظه الله تعالى بعض ما لمسته في ذاتي من آثار إيجابية في بناء الشخصية وتطور الخبرات . ودعوتي في هذه الوقفة للآباء أن يحرصوا على تدريب الأولاد على استثمار أوقات الإجازات في العمل لاكتساب الخبرة والتعلم بما يعود عليهم بالنفع والنماء ، وقد أعجبت كثيرًا خلال فترة عملي مديرًا للتربية والتعليم في كل من الخرج والمدينة المنورة بما يمارسه أفراد الكشافة العربية السعودية من أنشطة وتدريبات على العمل بهدف التعلم وإكساب المهارات الحياتية وكثيرًا ما شجعت القادة الكشفيين على تنفيذ المزيد منها وفق الإستراتيجية الكشفية والخطط التربوية المعتمدة ، وقد شرفت بالانتماء للكشافة وقيادة بعض المعسكرات الكشفية التي تعزز مثل هذه المبادئ والقيم والخبرات لدى الطلاب والقائمين على الإشراف والتدريب ، وآمل أن يوفق الجيل المستقبل في إيجاد فرص أو بدائل فرص التدريب على العمل لما أعتقد أنه أفضل وسيلة لاكتساب المهارات الحياتية ونماء الشخصية السوية ، وقد أعرج في وقفات تالية على رصد ما تبقى في ذاكرتي لتجربة العمل المبكرة وخاصة تلك الأيام التي قضيتها عاملا في شركة الكهرباء وتلك التي قضيتها متسلقًا شجرات النخيل لقطع عذوق التمر في مواسم الحصاد السنوية بمنطقة تربة البقوم والغريفين ، ففيهما من الذكريات ما يمكن أن يشجع الجيل المعاصر والمستقبل لتجربة العمل واكتساب خبراته اللازمة بما يساعد على نماء الشخصية والاعتماد على النفس ، والله الموفق والمستعان.،،،

السبت، 30 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (13)







الوقفة الثالثة عشرة : ماجدولين على رصيف الحراج
في الأعوام التي قضيتها في قريتي ودرست خلالها المرحلة الابتدائية لم يكن يتوافر لنا غير الكتب الدراسية مصادر للقراءة حيث لم يتوافر آنذاك مكتبات حكومية أو تجارية يمكننا من خلالها اقتناء ما نميل إلى قراءته ، ولذلك اتسمت تلك المرحلة بالركود القرائي عدا ما نطلع عليه في كتب المطالعة المقررة ، ورغم ما نشأ لدي ولدى البعض من جيلي من حب للاطلاع والقراءة فإن شح الوسائل كان يدفعنا إلى الاطلاع على الكتب المدرسية للأخوة الكبار وخاصة ما تضمن منها بعضًا من القصص القصيرة مثل كتب المطالعة والقواعد ونحوها ، ولم تسجل ذاكرتي بأنني اطلعت على روايات أو قصص في مطبوعات غير الكتب المقررة للمدارس . وعندما انتقلت إلى مدينة الطائف بدت لي بعض المكتبات الشهيرة مثل كنز فقدته من سنوات ، حيث كانت مكتبة المؤيد الشهيرة على مقربة من بيتنا في حارة الشرقية لكن الكتب المعروضة فيها غالبًا ما كانت كتبًا مرجعية تخصصية ومجلدات في علوم الشريعة المتنوعة وفي بعض العلوم الأخرى ، ونادرًا ما كانت تحتوي على كتب قصصية أو روائية ، ولم أذكر أنني مع تعدد مرات زيارتي لهذه المكتبة اقتنيت منها كتبًا خلال المرحلة المتوسطة بينما نشطت في عملية اقتناء الكتب المرجعية في المرحلة الثانوية . وفي المعهد العلمي حيث كنت أدرس كانت تتوافر مكتبة صغيرة لكنها كانت تحتوي على بعض الروايات والقصص وكنت من المداومين على الاستعارة منها بعض الكتب والقصص التي كانت تستهويني قراءتها في تلك المرحلة ، ولم أجد ما يشبع نهمي القرائي إلا فيما تحصلت عليه من بقايا قصص وكتب كانت تعرض في حراج الطائف للخردوات الواقع في باب الريع في الموقع الذي بني عليه جامع الملك فهد رحمه الله ، وقد كان أحد البائعين في الحراج آنذاك العم أبو أحمد اليماني وهو يمني الجنسية لا يمانع من جلوسي وغيري من الصبيان إلى جوار معروضاته من الكتب والصحف وبعض الأدوات المكتبية المستخدمة والاطلاع عليها وتصفحها حتى وإن لم نقتنيها عن طريق الشراء ، وكنت أواظب في الذهاب إلى بسطة أبي أحمد اليماني لإشباع رغبتي في القراءة والاطلاع ، وقد شدني في المجموعات القصصية التي كان يعرضها على الرصيف قصة ماجدولين وبعض مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وبعض قصص المغامرات البوليسية المترجمة والتي اشتريت منها مجموعة ليست بالقليلة . وقد تأثرت كثيرًا بالأساليب الأدبية التي تضمنتها قصة ماجدولين التي قام بتعريبها الأديب مصطفى المنفلوطي عن القصة الفرنسية تحت ظلال الزيزفون للكاتب ألفونس كارل ، وأذكر أنني حاولت مقلدًا الكتابة في مجال القصة والرواية من وقت مبكر من عمري خلال المرحلة المتوسطة لكنني لم استبق شيئًا مما كتبت من محاولات متواضعة، إلا أن تلك السنوات من عمري كانت المرحلة الفاعلة التي انطلقت فيها قارئًا ومتابعًا لكل المعروضات على رصيف الحراج في بسطة العم أبي أحمد اليماني ، وداومت فيها على ارتياد مكتبة المعهد العلمي واستعارة بعض الكتب الأدبية منها ، فتشكلت طوالع هويتي الثقافية التي أثرت على نشاطاتي في المعهد العلمي وخارجه آنذاك ، حيث كنت عضوًا نشطًا في الإذاعة المدرسية وفي فرقة المسرح حتى نجحت في تأليف بعض النصوص المسرحية لها ، وقد اختار منها مشرف نشاط المسرح نصًا شاركت في ثمثيله مع بعض الزملاء في المجموعة وتم عرض المسرحية في أحدى احتفالات المعهد المعتادة في نهاية العام الدراسي . وتلاها تجربة أخرى ناجحة في المرحلة الثانوية ، ومارست في تلك الفترة كتابة الشعر الشعبي والشعر المغنى تأثرًا بما كنت أسمع من أغاني شعبية لبعض الفنانين المشهورين آنذاك كالفنانين حجاب وطاهر الحساوي وطلال مداح وطارق عبدالحكيم ومحمد عبده وتوحة وحيدر فكري وابتسام لطفي وفوزي محسون وفتى الشرقية وسلامة العبدالله ونحوهم ، وأتممت أول ديوان شعري من تأليفي قبل أن أتمم المرحلة المتوسطة ولم يكتب لهذا الديوان البقاء ولم أعد أتذكر مما كتبته فيه شيئًا ، حيث فقدته مع بعض القصص التي اقتنيتها من الحراج في رحلة زيارة للحراج ذاته ، وكررت محاولاتي في تأليف القصص القصيرة والشعر الشعبي بعد ذلك خلال المرحلة الثانوية لكنها كانت محاولات تفتقد إلى الكثير من المعايير الأدبية التي تؤهلها للظهور أو النشر . وكانت أول قصيدة تنشر لي من الإذاعة العراقية من برنامج منكم وإليكم الذي كان يبث مابين الساعة الثالثة والرابعة من بعد ظهر كل يوم خميس في عام 1395هـ ، وقد تلقيت مئات الرسائل على عنواني الذي أذيع بعد إذاعة القصيدة ، وأذكر أن دكان الحبابي في شارع مزدلفة القريب من منزلنا كان العنوان الذي أرسلته مع القصيدة إلى الإذاعة وقرأه المذيع بعد قراءته القصيدة مصحوبة بمؤثرات موسيقية جاذبة ، وكانت ترد إلي على ذلك العنوان الكثير من رسائل المعجبين وطالبي الصداقة من الكثير من الدول العربية غالبيتهم من الفتيات أو من المدعين بأنهم كذلك وكانت ترد مع الرسائل الكثير من الصور الفوتوغرافية التي كونت منها ألبومًا كنت أفاخر به عند إطلاع بعض أصدقائي المقربين عليه ، وكان لا بد لي في تلك الفترة من التجاوب مع تلك الرسائل الواردة بالرد عليها ، وأذكر أنني كنت مخلصًا في الوفاء بالرد على جميع ما ورد إلي من رسائل . وقد تعلمت كثيرًا من تلك المرحلة التي شهدت انطلاقتي في مجال القراءة والاطلاع واقتناء الكتب الأدبية والروايات والقصص وتجربة الكتابة في مجالات الثقافة والأدب المتنوعة مثل كتابة القصة والمسرحية والقصيدة الشعبية والرسائل ونحوها ، كما أنني أصبحت بفضل الله تعالى بعد هذه المرحلة من محبي المكتبات والجلوس فيها للقراءة والاطلاع وخاصة المكتبات العامة والجامعية وظل هذا المسلك مستمرًا معي إلى ما بعد حصولي على الدكتوراه في التربية وتكليفي بأعمال قيادية عليا في وزارة التربية والتعليم شغلتني عن زيارة المكتبات والقراءة الثقافية والاطلاع على الكتب . وقد عدت إلى بعض هواياتي والحمد لله بعد تحرري من العمل وانطلاقي في فضاء الحرية الشخصية أثر تقاعدي المبكر ، والنصيحة التي أضمنها هذه الوقفة للجيل المعاصر والمستقبل هي الحرص على الاستفادة مما توافر من مصادر تعلم ميسرة عادية وإليكترونية تمكن من القراءة والاطلاع على مختلف الكتب والمؤلفات والبحوث والدراسات في شتى العلوم وميادين المعرفة ، فالقراءة من وجهة نظري المتواضعة هي مفتاح العلم وهي مجال التعلم المؤثر في تكوين الاتجاهات وتنمية القدرات الفكرية والأدبية والثقافية المتنوعة ،ومجتمع لا يقرأ أفراده يظل في العلم فقيرًا وفي الإبداع متأخرًا وفي التطور والنماء مقلاً ، وأدعو الله تعالى أن يوفق أولادنا إلى الإفادة مما تيسر لهم من وسائل التعليم والتعلم وأن يجعلهم من القارئين والباحثين عن الحكمة والمبدعين في مجالاتها ،، والله الموفق والمستعان .،،،

السبت، 23 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (12)


الوقفة الثانية عشرة : دراجون في الركبان
في العام الهجري 1393هـ بينما كنت في الصف الأول المتوسط بالمعهد العلمي بمدينة الطائف كنت أقطع المسافة بين البيت الذي نسكنه بالاستئجار الواقع في حي الشرقية بشارع مزدلفة قريبًا من قصر عرب وشارع خالد بن الوليد إلى المعهد العلمي الواقع في حي شبرا الواقع إلى الخلف من قصر شبرا الشهير مشيًا على الأقدام ذهابًا إلى المعهد وعودة إلى البيت وكان والدي وفقه الله قد رافقني في الأيام الأولى للتعرف على الطريق الآمن من بين المنازل أو من الطريق الذي يمر بأطراف الركبان حتى الوصول إلى المعهد .
– والركبان قطع من الأراضي الزراعية بعضها مزروع وكثير منها مهجور يفصل بينها أكوام من التراب ترتفع لمتر أو مترين ، وفيها كثير من ملاعب كرة القدم الترابية ، وهي تقع إلى الشرق من مواقف سيارات التاكسي الأجرة الموصلة إلى مكة المكرمة وجدة والرياض ، وتمتد حتى بداية طريق السيل ، وفي طرفها الشرقي يقع قصر شبرا الشهير وقد تحولت اليوم إلى مباني وأبراج وأسواق وشوارع – وقد استحسنت الطريق الذي يمر بالركبان لما شاهدته عليه من مناظر المزارع في بعض الركبان بعيدًا عن خطورة السيارات ، وعند العودة من المعهد أرى الكثير من طلاب المدارس يمتطون دراجاتهم ويتسابقون في الطرقات عائدين إلى منازلهم ، وكنت أحلم بركوب الدراجة وأتمنى التمكن من مهارات أولئك الصبية الدراجين ، وامتلاك مثل ما يمتلكون من الدراجات .
مر العام ولا يزال الحلم في مخيلتي لا يغادرها كلما رأيت الدراجات والدراجين ، وفي آخر العام تعرفت وأخي الأوسط محمد وفقه الله تعالى وكان آنذاك في الصف الأول الثانوي بدار التوحيد ، تعرفنا على مؤجر للدراجات إلى القرب من حدائق نجمة حيث يمكن للمستأجر خلال وقت الاستئجار الذهاب إلى الركبان التي تحول بعضًا منها إلى ملاعب لكرة القدم للكبار وأذكر أن نادي عكاظ كان له مساحة مخططة في الركبان يمارس اللاعبون المنتمون إليه تمارينهم عليه ، وإجار الدراجات كان بالساعة أو الجزء منها ويحسب المؤجر الوقت عند تسليم الدراجة للمستأجر ثم يحسبه إذا عاد لتسليمها ويقرر قيمة الأجرة وفقًا لما قضاه المستأجر من الوقت ، وبعد أن تعرفنا على شروط الاستئجار ونظامه لدى المؤجر قررنا استئجار دراجتين وفقًا لمقاس كل منا ، وبالفعل دفعنا قيمة التأمين التي كانت كبيرة قياسًا لما يمكننا امتلاكه من المال ، وأذكر أن قيمة التأمين في ذلك الوقت كانت خمسين ريالا تعاد للمستأجر بعد حسم قيمة تأجير الدراجة وفق الزمن المستهلك ، وقد كان أخي وفقه الله قد ادخر من المال ما يكفي لدفع قيمة التأمين ، وبعد إتمام عملية استلام الدراجات انطلقنا بها ندفها تارة ونركبها تارة أخرى وأرجلنا لا تغادر الأرض خوفًا من السقوط ، وسرنا بها حتى بلغنا أطراف الركبان من الجهة الغربية قريبًا من منطقة الاستئجار شرق مواقف سيارات التاكسي الأجرة إلى مكة المكرمة وجدة والرياض .
وبدأنا مرحلة التعلم على ركوب الدراجات نسقط تارة ونفلح تارة أخرى في القيادة ، وكررنا تلك المحاولات حتى أتقنا قيادة الدراجة ، وفي المرات التالية وبعد أن جمعت من مصروفي المدرسي وهدايا النجاح مبلغ التأمين اللازم لاستئجار الدراجة كنت بين الفترة والأخرى أذهب لاستئجار دراجة والانطلاق بها بين المنازل في الحارات المجاورة وفي الركبان حتى أتقنت قيادة الدراجات ، ولكن حلمي بامتلاك دراجة ظل معي إلى أن تخرجت من المعهد العلمي ولم يتحقق .
ومن الطرائف التي حصلت لي في تلك الفترة ما وقع أثناء تجوالي بالدراجة المستأجرة في حارة البخارية إذ استوقفني بعض الأولاد في تلك الحارة وطلبوا مني الترجل عن الدراجة حيث ادعى أحدهم بأن الدراجة التي أمتطيها هي دراجته ، وحضر المشادة الكلامية التي تحولت إلى مصارعة على الدراجة بعضًا من الكبار الصالحين في ذلك الحي ، وعندما استمعوا إلى إفادة المدعي وإفادتي بشأن الدراجة وأنها مستأجرة ، صدر حكمهم بتكليف أحدهم بمصاحبتي إلى مؤجر الدراجات للتأكد من صدقي ، وكان المدعي يستدل بعلامة في الدراجة هو ووالده الذي أيده في ذلك أثناء حضوره المشادة ، وبالفعل انطلقت مع المكلف بالتأكد ومعنا المدعي ووالده ، وعندما وصلنا إلى المؤجر أكد ما أفدت به ، وأعاد إلى التأمين فورًا ، وبدأت حلقة جديدة من المشادة بين المؤجر ووالد المدعي حول ملكية الدراجة ، حيث أفاد المؤجر بأن هذه الدراجة اشتراها في ذلك اليوم من أحدهم ، وأصر والد المدعي على إحضار البائع والتعريف به أو إرجاع الدراجة لابنه ، وأسقط في يد المؤجر الذي قال صارخا خذوا الدراجة ويعوض الله علي في المال الذي دفعته مقابل شراء الدراجة أنا لا أعرف البائع ولم أطلب منه إثبات هويته ، فقد قبض مبلغ المبايعة وانصرف وأنا لا أعلم أهذه الدراجة له أم سرقها وتعاملت معه بحسن النوايا فقط ، إثرها أخذ صاحب الدراجة دراجته وانطلق مع والده .
وقد تعلمت من ذلك الموقف درسًا في أهمية التأكد من هوية كل من أتعامل معهم في بيع أو شراء فتلك أمانة ، كما أنني خلال مدة تعلمي قيادة الدراجات واللهو بها تمكنت من التعرف على أغلب حارات مدينة الطائف آنذاك ، وتعرفت على الشوارع والأزقة فيها وأهم المعالم التي تميزها ، وكان يسكن الطائف آنذاك أعداد كبيرة من أفراد القبائل القريبة من الطائف مثل بني سفيان وهذيل وقريش ونمير وهوازن وثقيف وبني سعد وعتيبة وبالحارث وزهران وغامد ويتواجد الكثير من البخارية والسليمانيين والأفغان واليمنيين قبل أن يتم تصحيح أوضاعهم بعد حرب الخليج ، وكانت الدراجات وسيلة من وسائل المواصلات المهمة في ذلك الوقت للصغار والكبار وخاصة البائعون المتجولون والعمال ، وقد تحقق لي ولله الحمد في مدينة الطائف التعرف على الكثير من العادات والتقاليد والأعراف إضافة إلى ما اكتسبته في سنوات نشأتي الأولى بقرية الحكمان ، فكانت الحياة في المدينة كما كانت الحياة في القرية مؤثرًا من المؤثرات التي انعكست على شخصيتي وسلوكياتي في المستقبل ، وقد تصاحبت مع الكثيرين من زملاء الدراسة وأولاد الجيران في مدينة الطائف والذين لا يزال تواصلي مستمرًا مع الكثيرين منهم إلى اليوم وأعتز وأفتخر بصداقتهم ووفائهم ، وأدعو في هذه الوقفة إلى الاهتمام بتعليم الأولاد ما ينفعهم وتشجيعهم على الصداقة الوفية فرب أخ لك لم تلده أمك ، وكم من الأصدقاء من كان أوفى من الأشقاء ، والله الموفق والمستعان . ،،،

السبت، 16 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (11)



الوقفة الحادية عشرة : بين سينما نجمة وسينما عكاظ
في نهاية العام الهجري 1392هـ تخرجت في مدرسة الحكمان الابتدائية في الوقت الذي لا تزال قريتي خالية من الكهرباء ولا يزال الأهالي يستخدمون وسائل الإضاءة التقليدية وترتب على ذلك جهلنا التام بوسائل الإعلام المرئية المتوافرة آنذاك في المدن مثل التلفزيون والسينما ، وقليل من أهالي القرية من يملكون الراديو الذي يعمل بالبطاريات ، وكنا نطلق على البطاريات حجار الكشافة ، لآن الغالب على استخدامها كان في مصابيح النور الكاشف اليدوية التي تعمل بالبطاريات آنذاك .
فبعد تخرجي من المرحلة الابتدائية وتزامن ذلك مع تخرج أخوتي الكبار من المرحلة المتوسطة قرر والدي وفقه الله وأحسن خاتمته أن يلحقنا بالمدارس ذوات المكافآت في مدينة الطائف فخير أخوتي الكبار حيث اختار أخي سعيد وفقه الله معهد إعداد المعلمين بينما أختار أخي محمد وفقه الله ثانوية دار التوحيد ، أما أنا فقد اختار لي والدي الالتحاق بالمعهد العلمي ، وقد انتقل عمل والدي آنذاك إلى مدينة الطائف برغبته ليكون إلى جوارنا ومشرفًا علينا ، فأضطر في العام الأول أن يسكن بعيدًا عن أسرتنا في مدينة الطائف ويتولى خدمتنا بنفسه .
وقد كانت اللحظة الأولى التي أدخل فيها مدينة الطائف قبل ذلك بعامين تقريبًا بينما مررنا بها في طريقنا إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، وكنت قد سجلت في المشهد الأول مجموعة من الذكريات وأنا على ظهر اللوري الذي نقلنا مع المعتمرين ومنها على سبيل المثال مشهد الحصان الذي يجر عربة البضائع ، والدراجات التي يستخدمها الكبار والصغار والسيارات المتنوعة وهي تسير على طريق مسفلت في شوارع تحف بها المحلات التجارية وتتوسطها أرصفة مشجرة ، وصوت بعض الباعة المتجولين الذين كانوا يبيعون المعمول والبسبوسة والمنتو واليغمش واللبان ونحوها ، لكنني في المشهد الثاني الذي رافقت فيه والدي وأخوتي إلى مدينة الطائف رأيت ما هو أكثر من مظاهر الحضارة التي لم نألفها في القرى ومنها التلفزيون في المنازل وفي المقاهي والتلفونات ، ودور السينما والحدائق والمسابح والأندية والقصور التاريخية كقصر شبرا وقصرعرب ، والقلاع التاريخية كقلعة باب الريع والمثناة ، ومواقف سيارات الأجرة التي تنقل المسافرين من الطائف إلى مكة المكرمة وجدة وإلى الرياض ، والأسواق المنظمة مثل سوق الهادي وسوق العباس والحراجات ، والمنشيات أو أسواق الخضار والفواكه واللحوم مثل منشية الشرقية ومنشية الشهداء ، والمساجد التاريخية مثل مسجد ابن عباس والمساجد الحديثة كمسجد الهادي ، ومستشفى الملك فيصل الذي كان يتوسط مدينة الطائف ، وتعدد الأحياء والحارات مثل حارة اليمانية والبخارية والشرقية والبلد والشهداء الشمالية والشهداء الجنوبية والسليمانية وشهار وحارة أبوبكر ونحوها ، كل هذه المظاهر كانت كالحلم بالنسبة للطفل في مثل سني آنذاك .
لكن أكثر ما استقر بذاكرتي تلك الليالي التي كان يصطحبني فيها أخي الأكبر سعيد وفقه الله إلى المقهى لمتابعة مسلسل وضحى وابن عجلان أومسلسل ستيف أوستن الأسبوعية ، وكانت المقاهي تتجاور على شارع الملك فيصل بجوار حديقة نجمة والتي كانت معلمًا حضاريًا في قلب المدينة وبالقرب من ساحة ابن عباس الشهيرة ، وكانت سينما نجمة من أشهر دور السينما في مدينة الطائف ولا تبتعد كثيرًا عن المقاهي حيث تقع إلى الخلف منها في اتجاه حديقة نجمة ، وأذكر أن أول مرة دخلت فيها السينما كانت مع أخي الأكبر وبعض أصدقائه ولا أزال أذكر تلك الأفيشات – الصور الدعائية للأفلام – معلقة في حائط السينما من الخارج وبأحجام كبيرة لجذب هواة الاستمتاع بمشاهد الأفلام السنمائية ، لا أذكر اسم الفيلم العربي الذي شاهدته لأول مرة لكنني أذكر أن من أبطاله الفنان فريد شوقي والفنانة نبيلة عبيد ، وصورهما تظهر مكبرة على لوحات الدعاية للفيلم .
وكان من المعتاد في دور السينما أن يشغل الفنيون فيلمًا سبق تشغيله في أيام سابقة في المدة التي تسبق الزمن المحدد لعرض الفيلم الجديد للمشاهدين الذين يبكرون في الحضور ، وصادف أن كنت مع أخي وأصحابه ممن بكر في تلك المرة بزمن لا يقل عن ربع ساعة وشاهدت خلالها لقطات من فيلم أجنبي لجمس بوند شدني بالفعل أكثر مما شدني الفيلم الرئيس للعرض ، وبعد مشاهدتنا للفيلم المعروض في فترة العرض الأولى والتي استمرت إلى موعد صلاة المغرب تقريبًا انصرفنا من السينما إلى المنزل وكان لا بد أن أحفظ السر الذي حملته من أخي بأن لا أتحدث عن ذلك أمام الوالد حتى لا نتعرض للعقوبة فقد كان والدنا وفقه الله محافظًا ملتزمًا ولا يحب ارتياد المقاهي ولا دور السينما ولا يحبها كذلك لأبنائه.
وفي المرة الثانية صحبت أخي الأوسط محمد وفقه الله إلى مسبح عكاظ الذي تتواجد إلى الجوار منه سينما عكاظ ، وعند وصولنا إلى بوابة السينما ومشاهدة لوحات الدعاية لفلم أجنبي أخبرت أخي بأنني قد ذهبت مع أخي الأكبر إلى سينما نجمة وكان الفيلم الأجنبي مثيرًا تقدمنا نحو بوابة دار السينما وسألنا عن رسوم الدخول والأوقات للعرض وعدنا أدراجنا بعد أن شاهدنا مسبح عكاظ وبعض الشباب والأطفال يسبحون ويلعبون إلى جواره بعض الألعاب الجماعية مثل كرة السلة وكرة الطائرة ونحوها .
وبدأنا التخطيط لجمع المبلغ الذي نحتاجه لرؤية فيلم أو فيلمين في سينما عكاظ وبالفعل في نهاية الشهر وبعد أن منحنا الوالد من مكافآتنا التي كنا نتحصل عليها من المعهد العلمي ودار التوحيد مصروفنا الشهري ، انطلقت مع أخي محمد وفقه الله إلى سينما عكاظ وشاهدنا فيلمًا أجنبيًا لا أذكر بالفعل مجمله ولا تفاصيله ، لكنني أذكر بالتحديد تلك المغامرة واتفاقنا على أن نخفي ذلك ونكرره متى توافرت لدينا قيمة التذاكر.
لقد قضيت العام الأول عزوبيًا مع والدي وإخواني وكنت أشاركهم في أعمال المنزل وأشاركهم بعض رحلاتهم في الركبان أمام قصر شبرا وفي وادي وج الذي لم يكن يليه من الجهة الجنوبية سوى تلال ومزارع ، كنا نذهب إليها سيرًا على الأقدام للتنزه أو للمذاكرة ، كما كنا نداوم إلى مدارسنا سيرًا على الأقدام ذهابًا وأيابا ، وكانت الطائف مدنية بالنسبة للقرويين من أمثالنا لكنها في مقاييس المدينة اليوم كانت حاضرة متواضعة ولم تكن الطائف في حجمها آنذاك تساوي عشر ما هي عليه اليوم ، وكنا نجوبها من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها سيرًا على الأقدام ، وقد كان لي في هذه المدينة الكثير من الذكريات ولا تزال الكثير منها في ذاكرتي إلى اليوم ولعلي أعرج في وقفاتي التالية على بعض منها .
والشاهد في هذه الوقفة شيوع توافر السينما في بعض المدن في تلك الحقبة الزمنية وتوافرها أيضًا في بعض المدارس ودور العلم ، لكنها ما لبثت أن استنكرت وطويت صفحتها ضمن الممنوعات في بلدي ، ولا أزال أستغرب استنكار تواجدها في الوقت الذي توافرت في المنازل اليوم من الأجهزة والوسائل ما يشبهها خاصة مع تطور صناعة الشاشات وأجهزة العرض (البروجكتور) ونحوها ، ونوافق المتحفظين على الاختلاط تحفظهم ، لكننا يمكن أن نتيح المجال لدور العرض السينمائية دون اختلاط كأن تخصص دور للرجال وأخرى للنساء ، ففي وجهة نظري المتواضعة يمكن أن تكون دور السينما متى ما وجهت نحو أهداف سامية بما يتوافق مع القيم الإسلامية مصادر معلومات وثقافة وتعلم للأجيال ، وأحترم الرأي الآخر أيضًا في كل الحالات ،، والله الموفق والمستعان .،،،

الجمعة، 8 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (10)


الوقفة العاشرة : بائعون على جانبي الطريق
في السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية تم تشغيل طريق الطائف الجنوب المسفلت المار بالجهة الشرقية من قريتي قرية الحكمان مارًا برهي أم الطير – ورهي جمع تكسير لرهوة وهي المكان المرتفع قليلا من الأرض – المتاخمة من الشرق لوادي دحيس ووادي الشكالبة ووادي آل زياد بتشديد الياء الواقعة شرق القرية والتي تقع فيها الكثير من أملاك أهالي قرية الحكمان من القطع الزراعية المسقية والجبلية ، وتكثر في هذه الأودية أشجار اللوز الحجازي ولا تكاد أسرة في قرية الحكمان إلا وتملك من أشجار اللوز ما ينتج لها سنويًا ما لا يقل عن عشرة أمداد أي ما يقارب المائة كيلوغرام .
كما أن الكثيرين من أهالي القرية يمتلكون البعض من أشجار الصبار الجبلي وتسمى في البيئة القروية بشجرة التين بينما نطلق على شجرة التين المعروفة مسمى الحماط وبذلك يتم التفريق بين الشجرتين في أعرافنا القروية ، وشجرة التين هي ذات الشجرة التي يطلق عليها مسمى البرشومي في نواحي الطائف ومنطقة بني سعد وثقيف وهوازن ، وكلتا الشجرتين أقصد شجرة اللوز وشجرة الصبار البرشومي لها نتاج سنوي يعمل الأهالي على جني ثمارها لأغراض متنوعة ، فشجرة اللوز تجنى ثمراتها في مواسمها بالتعاون بين الأسر حيث يشارك الصغار في الجني والتقاط الساقط من الثمرات نتيجة الجني وتجميعه .
وعادة ما يكافأ الصغار المشاركين في عملية الجني آخر النهار بإعطائهم من الثمرة ، وينشط الكثيرون من الصغار في موسم الجني في تسلق شجرات اللوز المجنية من ملاكها لتبرئتها من الباقي فيها من الثمرات بعد الجني ، ونستمر نحن الصغار نجمع ما نحصل عليه في المشاركة في الجني وما نحصل عليه بتبرئة الأشجار المجنية قبلا ، وقد يجمع الواحد منا في الموسم الواحد ما يزيد على مدين أو ثلاثة أي ما قد يصل إلى عشرين أو ثلاثين كيلو غرام ، ونستخدم ما جمعناه في العادة بالمقايضة به مع بائعي العنب والفواكه القادمين إلى القرية من وادي تربة زهران لبيع محصول مزارعهم في القرية بالنقد أوالمقايضة بالحبوب واللوز ، أما الأهالي فيستهلكون ناتج أشجار اللوز المتوافرة لديهم والبعض منهم يبيع بعضًا من ناتجها على تجار اللوز واللباب ويوفرون بثمنه متطلبات واحتياجات أخرى ، أما شجرة الصبار التين البرشومي فهي شجرة جبلية عثرية أي لا تسقى إلا بماء الأمطار ولا تكاد أسرة في القرية إلا ولها بعض من تلك الشجيرات في أطراف مزارعهم أو قريبًا من بيوتهم ، وتستهلك الأسر ناتجها من البرشومي ولا يباع ناتجها ولا يشترى ، ولذلك قد ترى فساد الكثير من ثمرات البرشومي في أمهاتها في آخر مواسمها نتيجة عدم جنيها قبل فسادها ، أما أشجار الحماط وهي أشجار التين المعروفة فيكثر نموها في بطون الأودية بين المزارع وعلى الحواجز بينها وتنتج ثمرات أصغر في الحجم من ناتج المسقي منها أو المزروع لكنها أطيب وألذ طعمًا ، وهي لا تباع أيضًا ولا تشترى وإنما تستهلك من العامة الراغبين في استهلاكها بعد جمعها .
وأذكر أنني قد اتفقت مع بعض أقراني لممارسة عملية البيع على طريق الطائف الجنوب المسفلت الذي يمر كما ذكرت بالوادي الشرقي للقرية ، وعقدنا العزم بأن تكون معروضاتنا في البيع ثمرات اللوز والتين البرشومي والحماط ، وبدأنا رحلة جمع الثمرة ووضعها في أوعية من علب الصفيح ، وكان اليوم الأول من تجربة البيع إذ اصطففنا إلى جوار بعضنا البعض وأمام كل منا معروضاته من الثمرات ننتظر الراغبين من سائقي السيارات المارة في الشراء ، وقد كان ارتياد السيارات لذلك الطريق من القلة حتى أننا لننتظر في بعض الأحيان ما يزيد عن الخمس دقائق دون أن تمر بنا سيارة في الإتجاهين الذاهب والآيب ، وقد نضع آذاننا على الأسفلت للاستماع لصوت سيارة قادمة ، وما أن انقضى اليوم الأول إلا وقد بعت من ثمرات اللوز التي جمعتها نتيجة المشاركة في الجني وتبرئة الأشجار ما يعادل خمسة ريالات وباع بعض أقراني بعضًا من معروضاتهم لكننا فشلنا في تسويق ثمرات التين البرشومي والحماط ، وقد عدنا أدراجنا ذلك اليوم بعد أن اكتسبنا بعض المهارات التي تتطلب الصبر والانتظار وحسن العرض والترويج للبضائع ، كما عدنا بفائدة عدم جدوى المتاجرة فيما يتوافر مجانًا في البيئة القروية ، وقد كررنا عملية البيع على الطريق أكثر من مرة بعد تحسين أساليب العرض والتخلص من المنتوجات غير المرغوبة .
وأذكر أنني في ذلك العام بعت على الطريق جميع ما جمعته من ثمرات اللوز ولم يكن الثمن كبيرًا لكنه كان تجربة مثيرة لمن هو في مثل عمري آنذاك ، لقد كانت مبادرة منا نحن المجموعة ولم نكن قد رأينا تجربة مماثلة قبلا ، عدا ما شاهدناه في سوق الربوع الأسبوعي في بلدة الأطاولة ، لكننا لم نكرر التجربة في الأعوام التالية بينما أقدم عليها بعض الأقران تقليدًا ومنهم من نجح في محاولته والكثيرون منهم لم تفلح محاولاتهم .
وبعد أن كبرت قليلا وانتقلت من القرية إلى مدينة الطائف كنت أشاهد على الطريق بعضًا من البائعين لبعض المنتوجات الزراعية فأتذكر تلك المحاولات الأولى لي ولبعض أقراني في الوادي الشرقي ولا أزال أتذكر تلك المحاولات كلما رأيت بائعين على الطرقات ، وكنت ولا أزال أقدر كثيرًا من يقوم بمثل هذا العمل التجاري لعلمي بأن ما يقومون به من العمل الشريف لطلب الرزق ، وعندما أقف على معروضات أحدهم بهدف الشراء لا أجادل كثيرًا في السعر المعروض بل اشتري البضاعة المرغوبة منهم بالسعر الذي يعرضون وقد أزيد البعض منهم وفق تقديري لقيمة البضاعة المماثلة لها في السوق العامة .
لقد عشت وأقراني ولله الحمد مرحلة طفولة قروية معلمة اكتسبنا فيها الكثير من المهارات التربوية والحياتية كما اكتسبنا فيها الكثير من القيم الإسلامية والاجتماعية المؤثرة ، وإنني ممن يؤمن بأن ما يكتسبه الأطفال من مهارات حياتية يظل مؤثرًا قويًا في تكوين شخصياتهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم المستقبلة وقد ينشط أو يخبو هذا التأثير نتيجة المؤثرات الثقافية والاجتماعية والعقدية لكن ذكريات الطفولة يظل لها حنين دائم لدى الكثيرين ممن مروا بتجارب متنوعة ومعلمة .
وقد أعرج في الوقفات التالية على بعض المواقف التي أحدثت تأثيرًا قويًا في شخصيتي حيث استمرت معي صفة حب المغامرات والاكتشاف والمشاركة في العمل من سن مبكرة وحتى كبرت حيث عملت في مواسم الحج المتعاقبة كما عملت في حفر الآبار وفي جني ثمار التمر وقطع نواتج النخيل كمهارات تعلمتها بالعمل في مزارع النخيل خارج حدود قريتي التي احتضنت طفولتي ، وفي الطائف حيث استقر بي المقام مع أسرتي في المرحلتين المتوسطة وبعض المرحلة الثانوية كنت استثمر كغيري من الطلاب أوقات إجازة الحج وإجازة الصيف في الأعمال بمواسم الحج وفي الأعمال الأخرى والوظائف المؤقته وكان لي بعض الذكريات والوقفات التي لا تزال باقية في ذاكرتي ، وكذلك الحال في المرحلة الجامعة في مكة المكرمة وما تلاها من مراحل العمل والجهاد الوظيفي ،، آمل أن أوفق في تدوينها جميعًا قبل نسيانها ،، والله الموفق والمستعان ،،،

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (9)



الوقفة (9): رحلة إلى غدير كردم والحفاة لتحطيم الأسطورة

في الفترة التي عشتها في كنف قريتي في مرحلة ما قبل دخولي المدرسة وفي سنوات المرحلة الابتدائية من الله تبارك وتعالى على قريتي وما حولها من قرى الحجاز في جبال السروات بالكثير من الفضل والنعمة حيث الأمطار العزيرة في جميع فصول العام وديمومتها في فصلي الشتاء والخريف حتى غدت الأرض والجبال والأودية مخضرة ولا تكاد ترى شبرًا من الأرض دون غطاء أخضر يزينها حتى العرق – جمع عراق – وهي الجدران الفاصلة بين القطع الزراعية غطتها النباتات الخضراء وتفجرت الأرض ينابيع من كل سند – والسند هو الجزء المتاخم للعراق أو الجدار الفاصل من القطع الزراعية، وكان عدد النجول – جمع نجل ويطلق على النبع المتفجر من الصخر أو من تحت الجدار الفاصل بين القطع الزراعية – يزيد في القرية وأحميتها في بعض الأحيان عن الثلاثين والأربعين نجلا ، مما يعيق في كثير من الأحيان الزراعة حيث تغرق الكثير من القطع الزراعية في الماء المتفجر من داخل الأرض ، والكثير من الآبار المتوافرة في أودية القرية تمتلئ بالمياه وتفيض بعضها على الأراضي الزراعية حولها ، ولا تكاد ترى شجرًا يابسًا حتى تلك الأشجار الجبلية مثل الطلح والعرعر ، وأودية القرية الواقعة في الجهة الغربية منها تجري المياه في أوديتها باستمرار مشكلة سلسلة من الشلالات والغدران يزيد منسوب المياه فيها بزيادة الأمطار وغزارتها .
 وأذكر أن الصغار من جيلي كانوا يتعلمون السباحة في بعض تلك الغدران وخاصة غدير العلمة  بضم العين وفتح الميم وغدير الجمل ، بينما صغار أهل القرية في الوادي أو في القرية السفلى يتعلمون السباحة في غدران مماثلة في الوادي الذي تصب مياهه في سد الخضراء – وهو سد يعلو القطع الزراعية التي يملكها أخوالي آل زنان بني في وقت سابق بجهود محلية ويشبه في بنائه بناء السدود القديمة المتوافرة في منطقة الطائف كسد السملقي - بضم السين وتشديد اللام المضمومة - بوادي ثمالة وسد معاوية في وادي المثناة بالطائف ونحوها من السدود التاريخية القديمة والتي استخدمت الأحجار والجص في بنائها.
 وأذكر جيدًا أن أغلب القطع الزراعية في وادي ربية – بفتح الراء وتشديد الياء – كانت ممتلئة بالمياه المتدفقة من الينابيع ، وتبدو في أعيننا كبحار متجاورة ، ومياه تلك الأودية كوادي ربية ووادي مارد ووادي المعكس ووادي الفقهاء ووادي السد تتجه جميعها نحو وادي الحازم الذي تتسلسل فيه الغدران  والشلالات ، ويستمر جريان المياه في الأودية بين الجبال المتاخمة كجبل العامر وجبل الأعشى وجبل الرصافة وجبل العقاب وجبل الحمار لتصب في وادي معداة والحفاة وتواصل سيرها نحو وادي الجنش – بضم الجيم والنون - الذي يقام فيه اليوم سد الجنش المعاصر ضمن سلسلة السدود التي بنيت في المنطقة .
 ويقع غدير كردم الذي كنا نخافه نحن الصغار في وادي معداة الذي يتوسط حمى قرية الحكمان في الجهة الغربية منها ، وكنا نخافه فعلا لما أثير حوله من أساطير متوارثة ومصطنعة من الأهالي لتخويف الصغار من المغامرة بالعوم فيه لكبره وعمق مياهه وخاصة بعد حادثة غرق أحد أبناء القرية فيه ووفاته ، وكنا بسماع تلك الأساطير نظن بأن الجن تحيط به متربصة بالصغار لتغرقهم في مياهه العميقة ، ولذلك لا يتجرأ على العوم فيه إلا الكبار الذين بلغو من الإدراك ما يجعلهم يكذبون تلك الأساطير .
 وقد اعتاد الفتيان الكبار من أبناء قريتي على تنظيم الرحلات إلى تلك الأودية والتمتع بالعوم واللهو في غدرانها المتعددة وقضاء يوم كامل بين جنباتها حيث أصوات الشلالات وانسياب المياه في الأودية وأصوات شقشقة العصافير وتغريدات الطيور تملاء سكون الأودية مضفية أجواء من المتعة لمرتاديها من الرحالة ، فضلا عن غزارة الأشجار المتنوعة وخاصة تلك التي تنمو في بطون الأودية حيث وفرة المياه واستمرار جريانها .
 وفي يوم من الأيام اجتمعت مع بعض أقراني الذين كنت معهم نقوم بتنظيم المهرجانات لأبناء القرية من عمرنا حينذاك وبدأنا التخطيط لرحلة إلى وادي معداه مستهدفين تكسير أسطورة العوم في غدير كردم بعد أن أتقنا العوم في الغدران الصغيرة كغدير العلمة وغدير الجمل وغدير الغربة مقلدين إخواننا وأبناء القرية الكبار الذين اعتادوا على تنظيم مثل تلك الرحلات ، وبعد الاتفاق على المغامرة وتحديد متطلبات الرحلة ورسم خريطة الذهاب والإياب وزمنها وبعد توزيع المهام وتقسيم المتطلبات من الأواني والأمتعة والمأكولات على المشاركين في الرحلة بيتنا النية وعقدنا العزم متوكلين على الله لتنفيذ ما اتفقنا عليه .
 وفي فجر اليوم التالي تجمع الفريق وانطلقنا نحو وادي معداه متخذين طريق وادي ربية ثم وادي مارد العسير جدًا هدفًا للوصول من خلالها إلى وادي معداه حيث يتبسم فيه غدير كردم مملوءًا بالمياه فائضًا في مجرى الوادي بعده في اتجاه وادي الحفاة ، كنا نسرع الخطى حينًا ونبطي حينًا آخر فرحين بتلك المغامرة الأولى لتنفيذ رحلة لم ينفذها قبلا إلا الكبار من أبناء القرية ، وخلال مرورنا بالأودية كنا نقتطف بعض الثمار لأشجار التوت وأشجار الشثن التي تنتج ثمرات تشبه الكرز بلون أسود عند نضجها لكنها أصغر حجمًا ونلتقط بعض الأزهار العطرية التي تضفي رائحة زكية على الشاهي مثل الحبق نعناع الوادي والصخبرة -وهي نبتة عطرية جبلية تبنت في أسفل الحشائش الجبلية - وما أن بلغنا لجة الوادي الذي فيه الغدير الأسطورة حتى بدأنا نشد من عزم بعضنا البعض لرفض الأسطورة وتكذيبها ، فوضعنا متاعنا في مكان تم اختياره بالإجماع بين شجر العرعر في الجزء المطل من الجبل على الغدير ، وبدأنا اللهو وقد تفرقت الغيوم في السماء وأطلت علينا الشمس في وقت الصيف تمنح الدفيء وتنشر النور في أنحاء المكان .
 كنت ممن كلف بإعداد طعام الغداء وحراسة الأمتعة مع قلتها – الحلة والصحن وبراد الشاهي والفناجيل والسكين ودجاجة ذبحت ونتف ريشها في منزل أحد الأصدقاء من أعضاء الرحلة  وقليل من الأرز – وهذا يعني بقائي إلى جوار الغدير الأسطورة أنا ورفيقي في مهمة الحراسة وإعداد الغذاء ، انطلق الزملاء نحو وادي الحفاة قبل المغامرة بالعوم في الغدير بينما أنا ورفيقي قررنا البدء بخوض المغامرة بالعوم في الغدير وفعلا قمنا بتحطيم الأسطورة ودخلنا للعوم في الغدير وما أن قدم إلينا بقية الرفاق ورأونا نعوم دون خوف أو وجل حتى تسابقوا في خلع ملابسهم والقفز معنا في الغدير ، وقضينا يومًا ممتعًا متنقلين بين جنبات وادي الحفاة إلى أن بلغنا قريبًا من غدير الشلال وهو آخر غدير كبير في حمى القرية قبل وادي الجنش ، حطمنا الأسطورة لكننا مع رؤيتنا للشلال والغدير الأكبر في الوادي عقدنا العزم على تكرار القيام بمغامرة رحلة جديدة يكون هدفها غدير الشلال
 أذكر بأننا في تلك الرحلة والتي بقي في ذاكرتي الكثير من مشاهدها تعلمنا التخطيط والتنظيم وبعض مهارات القيادة وتدربنا فعليًا على التعاون والتكافل والتشاور واحترام الآراء وتعلمنا ما هو مهم بالنسبة لنا آنذاك وهو الإصرار على كسر حاجز الخوف من المغامرات والإصرار على تكذيب الأساطير بالتجربة وإثبات البرهان ، نعم كنا صغارًا في السن لكننا كنا نحاكي سلوك الكبار في كل مسلك ونحلم بالتميز ونحققه بالفعل نتيجة للإصرار والعزم والتوكل على الله ، ما أجمل تلك الذكريات التي علقت في الذاكرة ولا أزال أذكر تفاصيلها حتى هذه اللحظة لتأثيرها فينا وفي سلوكياتنا ومشاعرنا وبقاء آثارها لدى الغالبية من جيلي إلى اليوم . والله الموفق والمستعان ,,,,

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (8)



الوقفة (8): مؤلفون ومنظمون ومخرجون

على الرغم من ندرة توافر أوقات اللهو للأولاد من جيلي بعد الانصراف من المدرسة لانشغال البعض منا مع أسرهم في الأعمال الزراعية أو الرعي والمساعدة في جلب المياه للمنازل والاحتطاب والاعتلاف وسقاية المزروعات وحمايتها ونحوها ، إلا أنني أذكر بأننا كنا بين الحين والآخر نلهو بممارسة بعض الألعاب الفردية أو الجماعية ، وقد أثرت ممارسة بعض الأنشطة المدرسية في تشكيل توجهاتنا ورغباتنا في اللهو خارج المدرسة.
 فمن الألعاب الجماعية التي كان يقبل عليها جيلي من الصغار في فترة الثمانينات وبداية التسعينات الهجرية من القرن المنصرم كانت لعبة كرة القدم وقد أختار الكبار وقلدهم الصغار في قريتي بعض الأراضي الزراعية الواسعة غير المزروعة شرقي القرية منها على ما أذكر قطعة أم قريش ، وقطعة المجادير بعد ذلك ثم قطعة أم دحيم ، وكانت جميع الأراضي الزراعية والآبار والجبال والطرق والسبل بمسمياتها المعلومة معروفة لدى كل أفراد القرية .
وكنا نمارس لعبة الصياد والسمك – وهي لعبة يخطط لها مستطيل بحسب سعة المكان الذي تمارس فيه اللعبة ومربعين في طرفا المستطيل يقف في كل مربع منها واحد منا نسميه الصقر الصياد بينما يدخل المشاركين في اللعب داخل المستطيل ويسمون الحمام ثم يقوم الصقور الصيادين بقذف كرة تصنع عادة من الشراب المحشو بأقمشة وأوراق خفيفة الوزن فإذا أصاب الصياد بها أحد المشاركين في اللعب داخل المستطيل يخرج المصاب من المستطيل ويكتفي بالمشاهدة حتى إذا لم يبق داخل المستطيل إلا إثنان يتم ترقيتهما إلى صقور يحتلان مكان الصقرين السابقين في المربعات في طرفي المستطيل وهكذا يتم تكرار اللعبة – وأذكر بأن المكان الذي اختير لممارسة هذه اللعبة كان في شمالي القرية في قطعة الحائط أو في قطعة الصبخة ، وبينما الكبار يمارسون كرة الطائرة في قطعة الواسط شرقي القرية أو في شعب أحمد جنوبي القرية ، كنا نمارس لعبة المثل في جبل أبو حميد غربي القرية – ولعبة المثل هي لعبة إصابة الهدف عن طريق الرمي بالحجارة حيث تنصب أحجار بحجم الكتاب لمتنافسين في موضع تحدد فيه المسافة بينهما بتقدير مدى الرمي لكل منهما ، وينصب كل منهما حجرين متتاليين بحيث إذا وقع الأول نتيجة إصابة ضعيفة يسقط إلى الخلف بدون أن يسقط الذي يليه ، ويسقط الثاني بالإصابة المباشرة أو إصابة الأول إصابة مباشرة قوية تدفعه لإسقاط الحجر المنصوب الذي يليه ، ويستمر اللعب إلى أن يتمكن الرامي من إسقاط الهدفين لمنافسه ثم يتم تبادل المواقع لجولة أخرى أو نزول متنافسين آخرين غيرهما – ويقع جبل أبو حميد إلى الجهة الغربية من القرية وقد مارس فيه جيلي الكثير من الألعاب .
ولعل أكثرها ثباتًا في ذاكرتي مما تأثرنا فيه بما تقدمه المدرسة آنذاك من الأنشطة الثقافية تلك المحاولات المبكرة لنا نحن الصغار للتأليف المسرحي وتنظيم المهرجانات الصغيرة وفقًا للإمكانات المتاحة للصغار في عمرنا في ظل الظروف الأسرية المتقاربة لأهل القرية ، كما مارسنا فيه التمثيل والإخراج المسرحي ، حيث يجتهد بعض الأصدقاء في التخطيط لإقامة مهرجان يدعى له باقي الأقران في القرية ويحدد له موعد ثابت يبلغ الجميع به بالدعوات المباشرة وغالبًا ما يكون ذلك خلال الإجازة أو العطلة الصيفية وتوزع المهام بين المنظمين فمنهم من يقوم بالتأليف لمقاطع مسرحية صغيرة ومنهم من يمارس دور التمثيل ومنهم من يعد الجوائز الرمزية للمتنافسين وغالبًا ما تكون من الحلويات والبسكويت وبعض الألعاب البسيطة التي لا تكلف مبالغ لا يملكها الصغار آنذاك ، ومنهم من يعد برنامج المهرجان من المسابقات والألعاب الجماعية كالجري وكرة القدم ونحوها ، وأذكر أنني شاركت في تلك الفترة مع أكثر من فريق لتنظيم تلك المهرجانات تارة في التأليف وأخرى في التمثيل وأخرى في التنظيم وأخرى في الإخراج المسرحي وكثيرا ما جمعت بين كل المهام في المهرجان الواحد .
وقد اخترنا لإقامة تلك المهرجانات مواقع تمتاز بتدرجها بما يتيح تنفيذ الألعاب والفقرات المختلفة وخاصة المسرحية وبما يتيح المشاهدة للمشاركين في المهرجان والحضور وقد يكون بين الحضور بعض الكبار ، ومن تلك المواقع جنبى إبن شهوان في جبل أبو حميد المطلة على وادي ربية – وجنبى بضم الجيم والنون وفتح الباء جمع تكسير لجناب وهو قطعة الأرض الممتدة فوق قطعة الأرض الزراعية الأكبر وغالبًا ما تشكل المدرجات الجبلية التي تمتاز بها منطقة الحجاز في الباحة والمناطق الجنوبية في شبه الجزيرة العربية ، وأذكر أنني في تلك المرحلة من عمري بدأت أنظم الشعر الشعبي وأمارس الخطابة والتقديم للمهرجانات التي نفذناها لأكثر من عام ، وقد أقمنا مهرجانات أيضًا في شعب الفقهاء وفي شعب عرابة .
 ولعل تلك الفترة هي التي جذبتني وهيأتني فيما بعد لممارسة الكتابة حيث استمريت في ممارسة التأليف المسرحي حتى في المرحلتين المتوسطة والثانوية وقد اعتمد لي أكثر من نص مسرحي تم تمثيله في المعهد العلمي بالطائف ، وفي المرحلة الجامعية كنت شغوفًا بالأدب والبحث والكتابة والشعر إلى أن تطورت تلك المهارة في مجالات البحث العلمي وتأليف الكتب وقرض الشعر بأنواعه في المراحل التالية من عمري .
 وإنني لأنظر إلى الأطفال المعاصرين وقد استنزفت أوقاتهم ألعاب الفيديو والكمبيوتر والحاسبات الإليكترونية والآيباد والهواتف المحمولة فأشفق عليهم مما ينالهم من مضارها الثابتة علميًا وعقليًا وأنظر إلى جيلي الذي انتفع بمهارات طفولته في كبره ، نعم الحياة في تطور مستمر وقد تكون هذه الأيام ذكريات لأطفالنا في المستقبل يقارنونها بما يحدث في المستقبل من تطورات تتغير بها أنشطتهم فيشفقون شفقتنا على الصغار في الأجيال القادمة ، لكني أؤكد بأن ما مر به جيلي كان معلمًا ومربيًا في ذات الوقت وكان تدريبًا لنا على الكثير من المهارات القيادية والعملية والمهارات الاجتماعية والحياتية ، وقد تعلمنا منها الكثير من الشمائل الكريمة والأخلاق النبيلة ، حتى تلك الألعاب الجماعية التي كنا نمارسها كانت تؤلف بين قلوبنا وتجمعنا على الخير والحب والاحترام وتسعدنا أكثر مما يسعد به الصغار في هذا الجيل المعاصر .
 وإن ذاكرتي المتواضعة لتزدحم بأسماء المواقع والأراضي الزراعية والآبار والطرق والخلجان والأدوات الزراعية والمنزلية والجبال والأودية والشعاب ونحوها مما يمكن فيه تأليف أكثر من مؤلف ، ولا أرى أن الجيل المعاصر يستوعبها لانصرافه عنها إلى ما يشغله في وسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي المعاصرة ، وقد يأتي الزمن الذي لا يعرف فيه أولادنا وأحفادنا تلك المسميات ، فالكثيرون منهم عاشوا مع أسرهم في المدن بعيدًا عن القرية وإن قدموا إليها في إجازات الصيف فإن آباءهم لا يهتمون بتعريفهم بها وستندثر تلك الأسماء تدريجيًا ، ونلاحظ نحن الكبار تفلتها من بعضنا نتيجة البعد وقلة الاستخدام .
 وقد اجتهد أكثر من مؤلف في منطقة الباحة بتدوين بعض تلك الأسماء مع تفسير معانيها لكنها تبدوا من الغرابة لدى القراء المعاصرين ما يثير تساؤلاتهم عن جدواها ، هكذا التغير الزمني بإرادة الله تعالى يقود إلى تغير العادات والتقاليد والأعراف ونسلِّم بأن ما كان بالأمس ضروريًا قد يكون اليوم غير ذلك ، والله يعلم بماذا سيميز به غدنا ومستقبل الأجيال القادمة ، ولعل ما بقي في ذاكرتي ينشِّط ما بقي في ذاكرة القراء والمتابعين من جيلي لتذكر بعض تلك الأسماء والمواقع والنشاطات التي كنا نملأ بها أوقات فراغنا وإن قل ،، والله الموفق والمستعان.،،،