الجمعة، 6 مايو 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (14)




الوقفة الرابعة عشرة : فرصة العمل الأولى في موسم الحج
في الأعوام التي قضيتها طالبًا في المرحلة المتوسطة مابين الأعوام 1393-1395هـ اعتاد الكثيرون من أبناء الأسر متوسطة الدخل على العمل في مواسم الحج وتنوعت مقاصدهم في العمل كما تنوعت أعمالهم بتنوع مهاراتهم وكفاياتهم العملية ، إلا أن غالبيتهم كان يقبل على العمل مع المطوفين الموكل إليهم خدمة الحجاج والمعتمرين قبل تأسيس مؤسسات الطوافة الحالية ، ومنهم من يعمل لحسابه الشخصي في البيع على أرصفة الشوارع للمشروبات والمأكولات الخفيفة أو بيع الهدايا والمسابح والسجاجيد والمعروضات الخفيفة التي كان الحجاج يقبلون على شرائها .
أو حمل كمرات التصوير الفورية والقيام بتصوير الراغبين من الحجاج والمعتمرين في التقاط صور تذكارية لهم إلى جوار المسجد الحرام أو القيام بدفع عربات كبار السن في المسعى ، أو القيام بتطويف الحجاج وترديد الأدعية التي كان الحجاج يرددونها خلف المطوف أثناء الطواف ، أو العمل أدلة لإرشاد قائدي حافلات نقل الحجاج بين المشاعر إلى الطرق ومواقع التفويج ، أو العمل في الإرشاد والتوجيه ضمن فريق العمل بالرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين ، أو العمل أجراء في الأعمال المتاحة في موسم الحج. وكانت الأجرة ومكاسب البيع في مواسم الحج ليست بالكبيرة لكنها فرصة عمل تستثمر من قبل المشتغلين في موسم الحج واستثمار الإجازة في نفع الناس ونفع الذات بجمع المال من العمل المباح ، وقد أذن لي والدي وفقه الله تعالى في حج عام 1393هـ بمرافقة أخوتي الكبار للنزول من الطائف إلى مكة المكرمة للمشاركة في العمل بموسم الحج شريطة أن يكون الإشراف علي من قبل زوج خالتي غفر الله لهما والذي كان يعمل في بريد مكة المكرمة آنذاك وأن تكون إقامتي في بيت خالتي غفر الله لها ، وكانت تجربة العمل الأولى التي أتيحت لي في موسم حج ذلك العام هي كتابة الرسائل للحجاج إلى جوار بريد الصفا الواقع في جبل أبو قبيس مقابل الصفا في الموقع الذي أقيمت عليه القصور الملكية الآن ، وبيع بعض الأدوات المكتبية اللازمة لإرسال الرسائل البريدية مثل الأوراق والظروف المغلفة للرسائل والأقلام والأصماغ ونحوها . وأذكر أن من المواقف الطريفة في ذلك أن أقبل علي حاج جزائري وطلب مني أن أكتب له رسالة فكان هو يمل وأنا أكتب وقد كانت لحظة عصيبة عندما طلب مني قراءة الرسالة التي استمريت معه في كتابتها أكثر من نصف ساعة وأعاد الكثير من الكلمات التي أملاها عشرات المرات ، فعندما شرعت في قراءة ما كتبت فتح الحاج فاه وجحظت عيناه فلا ما كتبت يتوافق مع ما أملاه ولا ما قرأته يفهم معناه ، وغضب وانسل متحسرًا على نصف ساعة قضاها معي في كتابة تلك الرسالة الشاقة فأهل المغرب عامة والجزائريين سكان الصحراء خاصة يصعب على الراشد تمييز ما يقولون لاختلاط لغتهم العربية بالأمازيغية والفرنسية ، وتبدو الأسماء من الغرابة بحيث لا يتقن كتابتها الكبار . وقد تعلمت الدرس الأول من ذلك الموقف ألا أجازف بالوقت في أمر لا أتقنه ، واستمر عملي خلال أيام الحج حيث أنطلق صباحًا وأفترش الرصيف إلى القرب من بوابة البريد وأستمر في ممارسة العمل حتى بعد صلاة العشاء حيث أنطلق إلى بيت خالتي غفر الله لها مع أحد أخوتي أو أبناء خالتي الذين كانوا يعملون في الحرم وإلى جواره في الأعمال المتاحة لكل منهم ، وخلال ذلك العام تعرفت على بعض تجارب العمل المتاحة مما أثر في تنويعي للأعمال التي مارستها في مواسم الحج بعد ذلك . وأذكر أنني خلال المرحلة المتوسطة مارست في موسم الحج عمل بيع الشاي والقهوة على الرصيف قريبًا من المروة ، ومارست عمل التصوير الفوتوغرافي للحجاج في المنطقة المحصورة خارج المسجد الحرام بين الصفا والمروة ، وتطورت مهاراتي في سنوات المرحلة الثانوية حيث عملت في مجال إرشاد الحجاج والطوافة ودفع العربات وكنت أجمع بين أكثر من عمل في الموسم الواحد وأوزع الزمن المتاح عليها وتطورت مستويات المردود المادي العائد من العمل في مواسم الحج بتطور الخبرة والممارسة سنة بعد أخرى إلى أن أصبحت سكرتيرًا لمطوفي حجاج المغرب العربي آنذاك الشيخان إبراهيم وحسين المنصوري ، وقد كان لي في تلك التجارب أكثر من وقفة لعلي أفصلها في وقفات خاصة ، ومما لا يغادر ذاكرتي رغبتنا الملحة لاستثمار أوقات الإجازات خلال سنوات المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعة في العمل المؤقت سواء أكان بالأجر اليومي أو بالأجر الشهري ابتغاء التعلم واكتساب الخبرات وادخار ما نصرفه على متطلباتنا ومستلزماتنا المتنوعة لقلة البدائل الواردة من الوالدين لدى الكثير من الأسر متوسطة الدخل آنذاك. ففي الإجازات الصيفية أتيحت لي كما أتيحت لبعض أفراد جيلي فرص العمل المؤقت في بعض الشركات عن طريق مكاتب العمل التي كانت تعرض مجموعة من فرص العمل المؤقت قبيل بدء فترة الإجازة الصيفية ، كما أتيحت لنا فرص العمل بالجهود الشخصية في أعمال البناء والتعمير وفي مواسم حصاد التمور وقد استثمرناها فعلا وتعلمنا منها الكثير من مهارات العمل والمهارات الاجتماعية والحياتية المتنوعة ، ولا أذكر أنني بقيت دون عمل في أي من مواسم الحج والإجازات الصيفية حتى تخرجت في الجامعة وكان لكل عمل من الأعمال التي مارستها ميزته الخاصة في إكساب الخبرة والمهارة وقد تأثرت بها جميعًا في حياتي حتى اليوم ، وحرصت على أن يتلقى ابني الأكبر رامي وفقه الله بعض خبراته واكتساب مهارات الحياة من المشاركة في العمل منذ المرحلة الثانوية بعد عودتي من الإيفاد للعمل بدولة روسيا الاتحادية، وقد لمست فيه حفظه الله تعالى بعض ما لمسته في ذاتي من آثار إيجابية في بناء الشخصية وتطور الخبرات . ودعوتي في هذه الوقفة للآباء أن يحرصوا على تدريب الأولاد على استثمار أوقات الإجازات في العمل لاكتساب الخبرة والتعلم بما يعود عليهم بالنفع والنماء ، وقد أعجبت كثيرًا خلال فترة عملي مديرًا للتربية والتعليم في كل من الخرج والمدينة المنورة بما يمارسه أفراد الكشافة العربية السعودية من أنشطة وتدريبات على العمل بهدف التعلم وإكساب المهارات الحياتية وكثيرًا ما شجعت القادة الكشفيين على تنفيذ المزيد منها وفق الإستراتيجية الكشفية والخطط التربوية المعتمدة ، وقد شرفت بالانتماء للكشافة وقيادة بعض المعسكرات الكشفية التي تعزز مثل هذه المبادئ والقيم والخبرات لدى الطلاب والقائمين على الإشراف والتدريب ، وآمل أن يوفق الجيل المستقبل في إيجاد فرص أو بدائل فرص التدريب على العمل لما أعتقد أنه أفضل وسيلة لاكتساب المهارات الحياتية ونماء الشخصية السوية ، وقد أعرج في وقفات تالية على رصد ما تبقى في ذاكرتي لتجربة العمل المبكرة وخاصة تلك الأيام التي قضيتها عاملا في شركة الكهرباء وتلك التي قضيتها متسلقًا شجرات النخيل لقطع عذوق التمر في مواسم الحصاد السنوية بمنطقة تربة البقوم والغريفين ، ففيهما من الذكريات ما يمكن أن يشجع الجيل المعاصر والمستقبل لتجربة العمل واكتساب خبراته اللازمة بما يساعد على نماء الشخصية والاعتماد على النفس ، والله الموفق والمستعان.،،،