الأحد، 30 أغسطس 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 3


الوقفة (3): أول يوم دراسي

في مطلع العام الدراسي 1386هـ اصطحبني والدي العزيز معه وأنا أرتدي ثوبي الجديد وحذائي الجديدة ويغشاني الحماس كما تغشاني السعادة ، اصطحبني والدي إلى مدرسة الحكمان الابتدائية وهي العالم الجديد الذي كنت أحلم به وأتمناه وخاصة بعد عدد من السنوات التي كنت أشاهد فيها أخوي الكبيرين في كل صباح وهما يتهيئان ويستعدان بعد وجبة إفطار خفيفة تعدها لهما أمي الغالية غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته ويرتبان كما يرتب أقرانهم كتبهم ودفاترهم وأدواتهم المدرسية البسيطة في حقائب بل قل في شبه حقائب قماشية تخاط وتصنع غالبيتها من قبل الأمهات لكنها حاويات جيدة يتعلقها الطلاب آنذاك على أكتافهم مسدلين حملها الثقيل على جوانبهم وأحيانًا على ظهورهم ، وسار والدي وأنا أسير معه في الطريق المعتاد للأهالي وللطلاب الموصل إلى المدرسة ، لم يكن الطريق غريبًا فقد كنت أرتاده من قبل نحو بعض القطع الزراعية التي يملكها والدي على ذلك الطريق لكنها المرة الأولى التي أرى الطريق تطوى في أرجلنا طيًا سريعًا وتقترب من نظري تدريجيًا أسطح منازل حارة اليتمان من قرية الحكمان السفلى أو كما كنا نطلق عليها آنذاك (أهل الوادي ) حيث توجد المدرسة في بيت محمد بن أحمد الزهراني غفر الله له ولوالدينا والمسلمين، بعد أن تم إضافة بعض الغرف إليه لتستوعب المدرسة طلاب قريتنا وبعض القرى المجاورة لها مثل الحميدان والقامرة والشطة والإشتاء والوهدة قبل أن يكتمل بناء المبنى الجديد للمدرسة وقبل أن تؤسس مدرسة الإشتاء والوهدة الابتدائية .
 وصلنا إلى فناء المدرسة قبل بدء العام الدراسي بأيام ، استقبلنا مدير المدرسة آنذاك المغفور له بإذن الله تعالى الأستاذ علي السبالي ورحب بنا كما لو كنا ندخل بيته أجلس والدي على الكرسي المقابل لمكتبه المتواضع وجلس على كرسي خشبي عادي خلف مكتبه الحديدي يعرض خدماته لوالدي وهو يرمقني بعينيه النابهتين ، فتحدث والدي مبتدأ بحمد الله وشكره على نعمة تعليم الأبناء وعلى توافر المدرسة قريبة من طلاب القرية ممتدحًا أسلوب إدارة المدرسة في الضبط وتشجيع الطلاب على التحصيل العلمي ، ثم قدمني لمدير المدرسة وكنت وقتها متكئًا على حجر والدي ولا يكاد يبلغ رأسي سطح مكتب المدير ، وأبلغ والدي مدير المدرسة برغبته في تسجيلي بالصف الأول الابتدائي ممتدحًا نباهتي وفطنتي ورغبتي في اللحاق بأخوي الكبيرين ومرافقتي لهم إلى المدرسة ، فسأل مدير المدرسة والدي عن عمري فقال والدي هذا الابن يسبق عمره بكثير فأومأ مدير المدرسة لي طالبًا حضوري بين يديه فدفعني والدي للاستجابة لطلب المدير في الوقت الذي قال والدي أن عمره الآن خمس سنوات لكنه سيفوق من هو أكبر منه سنًا بإذن الله .
صافحني مدير المدرسة واقترب إلى وقال ما اسمك فقلت سعود بن حسين بن سعيد بن سعدالله فقاطعني فقال حسبك أريد أن أشاهد مهاراتك وبعض قدراتك هل تستطيع أن تمسك أذنك اليسرى بيدك اليمنى من فوق رأسك لم أتردد وقتها بتطبيق التمرين الذي كان مقياسًا آنذاك لعمر الصغار وكنا نتدرب على ذلك لعلمنا السابق بأن من ينجح بتطبيقه يسمح له بدخول المدرسة ثم طلب مدير المدرسة مني أن أعد إلى خمسة ، انطلقت أعد كما كنت معتادًا في عد الغنم أو البهم عند المراح فعددت أمام مدير المدرسة حتى بلغت العشرة ، فقال ماشاء الله تبارك الله ، ثم التفت إلى والدي وقال سنقبله لصغر سنه مستمعًا في الصف الأول فإن نجح نظرنا في ترفيعه للصف الثاني وإن أخفق بقي للسنة التالية مسجلا رسميًا لبلوغ السن ، وقد كان السن المسموح به آنذاك للمدارس ما بين السادسة والعاشرة ولمدير المدرسة التجاوز عن هذه المعايير وفقًا لظروف الأهالي في المنطقة أو القرية أو الهجرة التي تتواجد بها المدرسة بالتنسيق مع مكاتب الإشراف وإدارات التعليم .
 وافق والدي وأتم عملية التسجيل وتعبئة النماذج البسيطة ، ثم انصرفنا ووالدي من المدرسة متجهين إلى البيت ولم ينفك والدي في رحلة عودتنا ينصحني ويرشدني لأرفع رأسه وأشرفه أمام الجميع ، وأنا أكاد أطير فرحًا لأنني سألتحق بالكبار الذاهبين للمدرسة كل يوم، وبدأ العام الدراسي وصحبت أخواي سعيد ومحمد حفظهما الله إلى المدرسة في أول يوم من أيام الدراسة، وعند وصولنا اصطف الطلاب في صفوفهم المعتادة للطابور الصباحي واصطففت مع أقراني المستجدين والمعيدين بالصف الأول الابتدائي بإشراف معلم الصف الأول وشاهدت لأول مرة في حياتي الطابور الصباحي الذي بدأ فيه الطلاب آنذاك بتحية العلم السعودي قبل أن يؤلف له النشيد الوطني المعاصر حيث كان مجموعة كلمات للتحية تتضمن دعوة لحياة الملك وكان ملك المملكة العربية السعودية آنذاك هو الملك فيصل رحمه الله ، وكان الطلاب يرددون بعد حامل العلم يحيا الملك يحيا العلم ، يا ،، يحيا يحيا يحيا … ، ثم ألقى مدير المدرسة كلمة توجيهية للطلاب وحثهم على الجد والاجتهاد والمحافظة على النظام وأذن للطلاب بالانصراف من الطابور إلى فصولهم ، فانصرفوا مرتبين بدأ من حامل العلم ويتبعه طلاب الصف السادس ثم الخامس ثم الذين يلونهم في ترتيب الفصول إلى أن وصل ترتيبنا فسرنا يتقدمنا معلم الصف ونحن طلاب الصف الأول الابتدائي خلفه إلى أن دخلنا غرفة الصف حيث لا توجد مقاعد وإنما كان مفروشًا بحصير ويوجد على جدار الفصل لوحة خشبية سوداء مسندة إلى الأرض وبعض الطباشير في كرتون إلى جوارها ، جلسنا على الحصير متحلقين بتوجيه من المعلم الذي وقف أمامنا إلى جوار اللوح الأسود وبدأ بالتعرف علينا من خلالنا وكان قليل منا من نجح في التعريف بنفسه ، ثم قاموا بتسليمنا الكتب الدراسية وبعضنا في فرحة غامرة والبعض متهيب خائف ووجل من الجو الجديد والبعض يبكون هلعًا وخوفًا مفتقدين أهليهم الذين تعودوا عليهم .

وكنت ممن عمتهم الفرحة وخالجهم بعض التوجس والخوف والوجل مما رأيت من أساليب التربية التقليدية باستخدام العصي واستخدام أدوات أخرى لضرب الطلاب لأسباب وبدون أسباب في كثير من الأحوال فقط لفرض هيبة المعلمين أمام الطلاب من أول يوم دراسي وكنا نشاهد بعض المعلمين يضرب بعض الطلاب الأكبر سنًا في الصفوف العليا -في الفلكة- بمساعدة طلاب آخرين ، ورغم أنه كان يوم رعب لا ينسى إلا أنني أتذكر بأنني كنت سعيدًا جدًا فقد امتلكت ما امتلكه أخواي ولم أعد صغيرًا حيث سأرافقهم للمدرسة كل يوم ، وسأحصل على المصروف المدرسي الذي كان عبارة عن قرشين للصغار وأربعة قروش للكبار ويمكننا أن نشتري بها قطعة من التميس – الخبز المخبوز في التنور – مع قطعة من الجبن وفنجال من الشاي لنفطر مع أقراننا في فسحة المدرسة ، لقد تغيرت الأنظمة وتغيرت المناهج وتغيرت أساليب التربية والتعليم وتغيرت إمكانات المدارس وتغير تأهيل المعلمين وتغيرت دوافع التعليم والتعلم لدرجة أن من يذكر اليوم الأول الدراسي ويقارنه مع ما يناله أولادنا اليوم في الأسبوع التمهيدي من رعاية وعناية وهدايا وبرامج ترفيهية وتهيئة نفسية بصحبة إحدى الوالدين بحسب جنس الطالب ليحمد الله تبارك وتعالى على الخير الذي أفاض الله تعالى به علينا وعلى أولادنا ، ومن يشاهد حال المدارس اليوم ولو في أسوأ مستأجرها ويقارنه مع ما كنا عليه ليحمد الله أيضًا على الخير الذي توافر للتعليم ، نعم نحن والوطن نطمح إلى تحقيق المزيد من الإمكانات التي تساعد على منافسة العالم المتقدم لكننا لا ننسى ما كنا عليه من قلة الإمكانات إلى عهد ليس بالبعيد وكنا في وقتها نحمد الله أيضًا أن يسر لنا سبل التعليم ، ولعلي في الوقفة التالية أصف بعض مشاهد التعليم في مدرستنا العزيزة مما بقي في ذاكرتي منها بعد أن انتقلنا إلى مبناها الجديد ،، والله الموفق والمستعان .،،،

الاثنين، 24 أغسطس 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة 2


الوقفة (2) : العروس مردفة على الجمل

في صباي مابين العام الهجري 1385-1386 عندما كنت بين سن الرابعة والخامسة كنت أنا وجيلي نعرف كل أهالي القرية أسفلها وأعلاها ذكورهم وإناثهم بالتفاصيل الدقيقة ، حيث كن النسوة لا يستخفين من الصبيان أمثالنا آنذاك استخفاءهن من الكبار ، وأكاد أجزم بأننا كنا نميز المرء منهم ذكرًا أو أنثى كبيرًا أو حدثًا صغيرًا من خلال سماتهم الشخصية أو أصواتهم أو من أساليب مشيهم وقد نصل إلى تمييزهم من ظلالهم ، وكنا نسرح ونروح مع الجميع إلى الحقول أو الجبال للزراعة أو السقاية أو الرعي أو الاحتطاب وما كنا نتحرج من مصاحبتهم وما كانوا يتحرجون من مصاحبتنا ونعمل في الكثير من الأوقات جماعة أو مجموعات وخاصة في مواسم الحصاد والدرس ، ولذلك ما كان الشباب ليحتار في اختيار عروس المستقبل لأن جميع بنات القرية معروفات للجميع بتفاصيل حياتهن ، ولم تكن الأسر في حاجة إلى خاطبات أو من يقوم مقامهن للتعريف بالعرائس ، فكل أسرة تعرف بنات أهل القرية وبعض القرى المجاورة أيضًا مما يسهل على الأسر اختيار العروس المناسبة لأولادهم.
ومن عادات الزواج في تلك الحقبة أن تجهز العروس بجهازها الكامل وتنقل إلى مقر عريسها بواسطة سيارات الفورد ( الأبلكاش ) وهي السائدة في ذلك الوقت وتستخدم السيارة فقط إذا كان بيت العريس يبتعد عن بيت العروس بما لا يسمح بالمسير على الأقدام .
 والحدث الذي سجلته ذاكرتي لتلك الحقبة العروس التي أعد لها الجمل لتنقل مردفة عليه مع أبيها من بيت أهلها إلى بيت عريسها ، وهو الحدث الفريد في قريتي لجيلي حيث لا يبتعد بيت العروس عن بيت العريس أكثر من خمسين مترًا تقريبًا ومع ذلك أصر أهل العروس أن تكون مناسبة عرس ابنتهم حدثًا تاريخيا باستخدام الجمل في نقل العروس ، وكنا نحن الصبية الصغار نشاهد هذا الحدث بتفاصيله وقد شدني وجيلي إلى درجة أننا كنا نتابع مسيرة الجمل والنسوة من خلفه بالدفوف ينشدن قصائد في مدح العروس والعريس ويزغردن ويحيين الحفل بروح الفرح والسعادة ، وما هي إلا لحظات حتى استوى الجمل إلى مقر مربضه بجوار بيت العريس المجاور لبيت العروس وزفت العروس بعد نزولها من على الجمل إلى بيت عريسها حيث أطلقت الأعيرة النارية استبشارًا بالعرس ووصول العروس.
 تلك الأيام التي عشناها كانت ولا تزال تخلد في ذاكرة الكثيرين من جيلي حيث البساطة والتكافل يعم أهالي القرية ، وكان الفرح بالمشاركة فالعريس مخدوم من أهل قريته جميعًا فتأتي إليه المساهمات بالمفارش والأتاريك والفوانيس والقدور والصحون والطيس وكل ما يحتاجه العريس لتقديم مأدبة العرس لأهالي قريته والضيوف المهنئين وتقدم له الهدايا العينية والرفد النقدية وتسهم عقيلته من أبناء عمومته بمشاطرته تكاليف ولائم العرس في اليوم التالي وكان أهل القرية منهم من يقوم بالذبح والتجهيز والطبخ والتقديم ويسهم الجميع تكافلا وتبرعا دون مقابل وينشط الصبية من أمثالي في خدمة المدعوين والضيوف بتقديم القهوة والشاي والسقاية وتقديم العشاء والتنظيف ورفع السفر بعد فراغ المعزومين من مائدتهم ، وكنا نتسابق في الخدمة بتشجيع الكبار الذين تعودوا قبلا على مثل هذه السلوكيات الجماعية لخدمة الجماعة.
 ما أروعها من أيام ربت فينا نحن الجيل الناشئ آداب الاحترام والتقدير والإيثار والكرم والتعاون والتكافل وغيرها من الشمائل الإسلامية العظيمة ، لذلك لم يكن العرسان في حاجة إلى قصور أو قاعات أفراح مما هو سائد في هذه الأيام فالأمر يسير في ذلك الزمن حيث تنصب الخيام المستعارة من أهالي القرية إلى جوار بيت العريس في إحدى قطع الأراضي الزراعية التي تتسع للجماعة وتفرش بالمفارش المستعارة من أهالي القرية أيضًا وتضاء بالفوانيس والأتاريك المستعارة أيضًا من أهالي القرية ، وتسير الأمور بالتعاون بين الأهالي دون تكاليف إضافية على العريس وأهله ، وتفرش المنازل للنساء فإن استوعب بيت أهل العريس وإلا يستعار بيت جاره من أقاربه أو من الجماعة ولم يكن في ذلك حرج ولا بأس وكان الناس يتسابقون في تقديم الخدمات محبة ورضا وتعاون .

 لقد فقدنا في جيلنا المعاصر كثيرًا من تلك القيم الإسلامية النبيلة وإن كان الخير لا يزال موجودًا في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة ، إلا أن ما تربيت وجيلي عليه لمختلف عما هو قائم اليوم ، لقد فقدنا اليوم الكثير من تلك القيم بسبب تغير العادات وغلبة الحضارة المعاصرة على الحضارة القروية القديمة ، ونكاد اليوم لا نعرف الكثيرين من الصبية والشباب من أهالي قريتنا التي كان أهلها كلهم يتعارفون فضلا عن النسوة والصبايا اللواتي هجرن مع مقومات الحضارة المعاصرة عادات القرية ، فالكثيرون اليوم من أهالي قريتي وكثير من قرى الحجاز المماثلة لها يعيشون في المدن ولا يكادون يلتقون إلا في المناسبات الاجتماعية في الصيف أو في المدن التي يسكنونها وفقًا للأعراف والعادات السائدة اليوم ، ونسأل وجيلي كثيرًا في المناسبات عن أسماء الصبيان والشباب لعدم معرفتهم ، ولعل الجيل الجديد ينشط فيما يعيد لهم بعض تلك الشمائل التي اندثرت مع الزمن وتغير مقومات الحياة والحضارة فالذي عاش جيلي يقدر ما كنا فيه من الخير والنعيم والتعاون والتكافل الاجتماعي المربي وقد يكون الحل في تنشيط برامج جمعيات التنمية الاجتماعية في القرى لتعوض الأجيال المعاصرة ما فقدوه نتيجة الحضارة وتغير مقومات الحياة ،، والله الموفق والمستعان .،،،