الوقفة (2) : العروس مردفة
على الجمل
في صباي مابين العام الهجري
1385-1386 عندما كنت بين سن الرابعة والخامسة كنت أنا وجيلي نعرف كل أهالي القرية
أسفلها وأعلاها ذكورهم وإناثهم بالتفاصيل الدقيقة ، حيث كن النسوة لا يستخفين من
الصبيان أمثالنا آنذاك استخفاءهن من الكبار ، وأكاد أجزم بأننا كنا نميز المرء
منهم ذكرًا أو أنثى كبيرًا أو حدثًا صغيرًا من خلال سماتهم الشخصية أو أصواتهم أو
من أساليب مشيهم وقد نصل إلى تمييزهم من ظلالهم ، وكنا نسرح ونروح مع الجميع إلى
الحقول أو الجبال للزراعة أو السقاية أو الرعي أو الاحتطاب وما كنا نتحرج من
مصاحبتهم وما كانوا يتحرجون من مصاحبتنا ونعمل في الكثير من الأوقات جماعة أو
مجموعات وخاصة في مواسم الحصاد والدرس ، ولذلك ما كان الشباب ليحتار في اختيار عروس
المستقبل لأن جميع بنات القرية معروفات للجميع بتفاصيل حياتهن ، ولم تكن الأسر في
حاجة إلى خاطبات أو من يقوم مقامهن للتعريف بالعرائس ، فكل أسرة تعرف بنات أهل
القرية وبعض القرى المجاورة أيضًا مما يسهل على الأسر اختيار العروس المناسبة
لأولادهم.
ومن عادات الزواج في تلك
الحقبة أن تجهز العروس بجهازها الكامل وتنقل إلى مقر عريسها بواسطة سيارات الفورد
( الأبلكاش ) وهي السائدة في ذلك الوقت وتستخدم السيارة فقط إذا كان بيت العريس
يبتعد عن بيت العروس بما لا يسمح بالمسير على الأقدام .
والحدث الذي سجلته ذاكرتي لتلك الحقبة العروس
التي أعد لها الجمل لتنقل مردفة عليه مع أبيها من بيت أهلها إلى بيت عريسها ، وهو
الحدث الفريد في قريتي لجيلي حيث لا يبتعد بيت العروس عن بيت العريس أكثر من خمسين
مترًا تقريبًا ومع ذلك أصر أهل العروس أن تكون مناسبة عرس ابنتهم حدثًا تاريخيا
باستخدام الجمل في نقل العروس ، وكنا نحن الصبية الصغار نشاهد هذا الحدث بتفاصيله
وقد شدني وجيلي إلى درجة أننا كنا نتابع مسيرة الجمل والنسوة من خلفه بالدفوف
ينشدن قصائد في مدح العروس والعريس ويزغردن ويحيين الحفل بروح الفرح والسعادة ،
وما هي إلا لحظات حتى استوى الجمل إلى مقر مربضه بجوار بيت العريس المجاور لبيت
العروس وزفت العروس بعد نزولها من على الجمل إلى بيت عريسها حيث أطلقت الأعيرة
النارية استبشارًا بالعرس ووصول العروس.
تلك الأيام التي عشناها كانت ولا تزال تخلد في
ذاكرة الكثيرين من جيلي حيث البساطة والتكافل يعم أهالي القرية ، وكان الفرح
بالمشاركة فالعريس مخدوم من أهل قريته جميعًا فتأتي إليه المساهمات بالمفارش
والأتاريك والفوانيس والقدور والصحون والطيس وكل ما يحتاجه العريس لتقديم مأدبة
العرس لأهالي قريته والضيوف المهنئين وتقدم له الهدايا العينية والرفد النقدية
وتسهم عقيلته من أبناء عمومته بمشاطرته تكاليف ولائم العرس في اليوم التالي وكان
أهل القرية منهم من يقوم بالذبح والتجهيز والطبخ والتقديم ويسهم الجميع تكافلا
وتبرعا دون مقابل وينشط الصبية من أمثالي في خدمة المدعوين والضيوف بتقديم القهوة
والشاي والسقاية وتقديم العشاء والتنظيف ورفع السفر بعد فراغ المعزومين من مائدتهم
، وكنا نتسابق في الخدمة بتشجيع الكبار الذين تعودوا قبلا على مثل هذه السلوكيات
الجماعية لخدمة الجماعة.
ما أروعها من أيام ربت فينا نحن الجيل الناشئ
آداب الاحترام والتقدير والإيثار والكرم والتعاون والتكافل وغيرها من الشمائل
الإسلامية العظيمة ، لذلك لم يكن العرسان في حاجة إلى قصور أو قاعات أفراح مما هو
سائد في هذه الأيام فالأمر يسير في ذلك الزمن حيث تنصب الخيام المستعارة من أهالي
القرية إلى جوار بيت العريس في إحدى قطع الأراضي الزراعية التي تتسع للجماعة وتفرش
بالمفارش المستعارة من أهالي القرية أيضًا وتضاء بالفوانيس والأتاريك المستعارة
أيضًا من أهالي القرية ، وتسير الأمور بالتعاون بين الأهالي دون تكاليف إضافية على
العريس وأهله ، وتفرش المنازل للنساء فإن استوعب بيت أهل العريس وإلا يستعار بيت
جاره من أقاربه أو من الجماعة ولم يكن في ذلك حرج ولا بأس وكان الناس يتسابقون في
تقديم الخدمات محبة ورضا وتعاون .
لقد فقدنا في جيلنا المعاصر كثيرًا من تلك القيم
الإسلامية النبيلة وإن كان الخير لا يزال موجودًا في أمة محمد إلى أن تقوم الساعة
، إلا أن ما تربيت وجيلي عليه لمختلف عما هو قائم اليوم ، لقد فقدنا اليوم الكثير
من تلك القيم بسبب تغير العادات وغلبة الحضارة المعاصرة على الحضارة القروية
القديمة ، ونكاد اليوم لا نعرف الكثيرين من الصبية والشباب من أهالي قريتنا التي
كان أهلها كلهم يتعارفون فضلا عن النسوة والصبايا اللواتي هجرن مع مقومات الحضارة
المعاصرة عادات القرية ، فالكثيرون اليوم من أهالي قريتي وكثير من قرى الحجاز المماثلة
لها يعيشون في المدن ولا يكادون يلتقون إلا في المناسبات الاجتماعية في الصيف أو
في المدن التي يسكنونها وفقًا للأعراف والعادات السائدة اليوم ، ونسأل وجيلي
كثيرًا في المناسبات عن أسماء الصبيان والشباب لعدم معرفتهم ، ولعل الجيل الجديد
ينشط فيما يعيد لهم بعض تلك الشمائل التي اندثرت مع الزمن وتغير مقومات الحياة
والحضارة فالذي عاش جيلي يقدر ما كنا فيه من الخير والنعيم والتعاون والتكافل
الاجتماعي المربي وقد يكون الحل في تنشيط برامج جمعيات التنمية الاجتماعية في
القرى لتعوض الأجيال المعاصرة ما فقدوه نتيجة الحضارة وتغير مقومات الحياة ،،
والله الموفق والمستعان .،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق