الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (6)


الوقفة (6): أهالي القرية إطفائيون متطوعون

تلتصق منازل أهل القرية بعضها ببعض وتتجاور حيث تشترك بعضها في أخشاب أسقفها ولا يفصل بين بعضها سوى (الرصان) بضم الراء وتشديد الصاد، فواصل من الخشب المغطى بالطين من الجهتين والرصان جمع تكسير للرص وهو مرصوص الأخشاب الواقفة من الأرضية حتى السقف المشدودة إلى بعضها البعض والمكسوة بالطين وتفصل بين البيوت ، وهندسة البيوت والمنازل القديمة في القرى تكاد تتماثل بتألفها من الطابق الأسفل وتسمى السافلة أو السفل ، وفيه تخزن الأعلاف والتبن والحطب المجموع طيلة العام وتربط فيه المواشي ، وفي بعض البيوت يخصص ركن منه للمشب ، وهو المكان الذي يعد فيه الخبز في تنور أو على الأرض مباشرة ، والطابق الثاني في البيوت القديمة يتألف من المجلس والمطبخ وزاوية النوم لأفراد الأسرة ويتوسطه (الملة) بتشديد اللام وتعني المشب الخاص بالتدفئة والطبخ ، حيث يستخدم في الغالب الحطب لإعداد الطعام والتدفئة قبل أن يقتنى سكان القرى الطباخة بتشديد الباء وهي جهاز مصنوع من الزنك له حوض يملاء بالكيروسين الجاز وتشتعل فتائله المشبعة بالكيروسين لتخرج من أعلاها نار هادئة تستخدم في الطبخ أيضًا .
 وغالبية أثاثات المنازل تتكون من الحصير وفرش الصوف والحنابل وطراريح ومخدات محشوة بالرين أو بالتبن ونادرًا ما يحشى منها بالقطن وأغطية من البطانيات والجوادر جمع جودري قماش محشو داخله بالقطن غالبًا يستخدم مفرشًا كما يستخدم غطاء في وقت البرد حيث يضفي على مستخدميه الدفء ، كما أن مخازن الحبوب تكون في هذا الطابق من المنزل عند الغالبية حيث تخزن الحبوب في قفاف جمع قفة وعاء كبير مصنوع من سعف النخيل أو في أكياس وقد تخزن الحبوب عند البعض في العلية وهي الطابق الثالث الذي يضم غرفة النوم الرئيسة لرب الأسرة ومخزن الحبوب .
 وجميع محتويات البيوت القديمة قابلة للاشتعال والاحتراق بمجرد تماسها مع النار، وتفتقد البيوت إلى وسائل السلامة وأدوات إطفاء الحرائق، لذلك تحرص الأسر وربات البيوت على الحذر الشديد عند استخدام النار ، والمياه المتوافرة في المنازل لا تكفي لاستخدام أكثر من يومين للشرب والغسيل والوضوء والاغتسال ولا يعتد بها كوسيلة لإطفاء الحرائق عند اشتعالها ، ولا يوجد في القرى التابعة لمحافظة القرى خلال المدة التي قضيتها في المرحلة الابتدائية دوائر ومؤسسات أمنية حكومية عدا مركزًا للشرطة ومحكمة ومستوصف في بلدة الأطاولة ، ولا يتوافر فيها فرق للدفاع المدني ، فإذا ما اشتعلت حريق في حمى أو في منزل من منازل القرى فإن الأهالي ذكورهم وإناثهم صغيرهم وكبيرهم يفزعون إليها ويقومون بدور الإطفائيين بالتعاون والتكافل فيما بينهم .
كنت في الصف الثالث الابتدائي في العام الهجري 1387هـ تقريبًا عندما انطلقت نداءات الاستغاثة وطلب النجدة من قرية الزحاحيف أحد أحياء قرية الحكمان في جزئها الأسفل أو كما كنا نطلق عليه أسفل الوادي ، حيث شبت حريق في منزل أحد ساكنيها وما هي إلا دقائق وجيزة إلا وقد بلغ الخبر جميع أهالي القرية أسفلها وأعلاها وتسابق أهالي قريتي لنجدة المستغيثين تاركين أعمالهم مسرعين نحو الزحاحيف ، فالخطب جلل حيث أن منازل أهالي الزحاحيف متلاصقة ومشتركة في الأسقف حالها حال غالبية بيوت أهل القرية والقرى الأخرى ، وأقرب بئر يمكن جلب المياه منها تقع أسفل الوادي الذي تشرف عليه الزحاحيف من الغرب والمساوى من الشرق ويبعد المنزل المحترق عن البئر في الوادي ما يزيد عن الأربعمائة متر صعودًا حيث تتربع قرية الزحاحيف في أعلى الجبل الغربي من البئر .
 انطلقت مع المنطلقين لرؤية الحدث ومشاهدة الأهالي وهم يتعاونون على إطفاء الحريق ، كان مشهدًا مهيبًا لمثلي في ذلك العمر طابور من الرجال والنساء يحملون القرب المملؤة بالماء في الطريق من البئر في الوادي إلى موقع المنزل المحترق ، والسانية على البئر ترفع الماء وتسكبه في القف وهو الحوض الذي يصب فيه الغرب في أعلى البئر ، والغرب هو الدلو الكبير الذي تجره السانية ويستخرج به الماء من البئر ، وهناك فوق سطح المنزل المجاور للمنزل المحترق رجال يحملون الفؤوس والمساحي والعتلات يعملون جاهدين على عزل المنزل المحترق عن المنازل المجاورة، ويحفرون طين السقف ويقطعون أخشاب السقوف المشركة ويطفئون بما توافر من المياه النار القريبة منهم ،، والقادمون الجدد من أهالي القرية يسألون عن سلامة أهل البيت ومواشيهم فيأتي الرد من الجميع الحمد لله الجميع سالمين والخسائر في الماديات فقط والعمل مستمر لإنقاذ المنازل المجاورة من تمدد الحريق .
 كنت صغيرًا لكنني أذكر أنني كنت ومن في عمري نساعد وفق توجيه الكبار لنا بنقل التراب والحجارة الصغيرة والأخشاب غير المحترقة كل وفق طاقته وقدرته لكننا كنا مع الجماعة نتعاون كما يتعاونون ، ونشاهد تلك المهارات العالية لدى الغالبية في السيطرة على الحريق وضمان سلامة المنازل القريبة بعد أن أخليت من أهلها والمواشي التي في سوافلها .
 نعم لقد نجح الإطفائيون المتطوعون في حصر أضرار الحريق ومحاصرة تمددها وإن كانت قد أتت على مخزون أهل البيت من الأعلاف والحطب وبعض أكياس الحبوب ، لكنهم في أعين أهالي قريتهم حيث بدأت بعد إخماد الحريق مرحلة التطوع لإعادة إعمار البيت المحترق وتعويض أهله ما خسروه في الحريق من أعلاف ومؤن وحبوب ، وقد شهدت إعادة الإعمار التي لم تتأخر وقتًا كثيرًا ، وتعاون أهل القرية في تنفيذها والتطوع بمتطلباتها .
 هكذا كان أهالي قريتي قرية الحكمان ، تعلمنا منهم الفزعة والنجدة والتضحية والتعاون على البر والتقوى والتسابق في نجدة المستغيث والملهوف ، كنا صغارًا لكننا كنا نستوعب الدروس المتلاحقة ونقلد الكبار في تصرفاتهم البطولية وشمائلهم الإسلامية ، نحترم الجميع ولا ننادي الكبار بأسمائهم مجردة بل نقول للذكر يا عم فلان وللأنثى يا عمة فلانة وإن لم يكونوا من الأعمام والعمات في النسب .
كنا نقدر الجميع ونحترم الجميع ونطيع توجيهات الجميع لا فرق بين القريب والأبعد قرابة وغير القريب من أهالي القرية ويستوى في ذلك من منهم في الدار العليا أو في الدار السفلى ، كنا بحق نحب الجميع ويحبنا الجميع ، ونتبادل المنافع والمصالح والوجدان ،، كنا القرية المثالية كما كنا نعتقد وكذلك أهالي القرى الأخرى كانوا كذلك يرون قراهم مثالية .
 وكان الكبار من أهالي القرية يحبون أن يظهروا قريتهم بالمظهر اللائق بين القرى في المناسبات والأفراح وفي النجدة والحمية ، ولا ينتقصون من أهالي القرى الأخرى لأنهم يدركون أن مشاعرهم متماثلة ، تلك هي البيئة التربوية التي نشأت فيها وإني لأظنها أبلغ تأثيرًا وأثرًا من جميع أساليب التربية المعاصرة ،، والله الموفق والمستعان .،،،

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (5)


الوقفة (5) : في سوق الربوع لأول مرة

كانت قرية الحكمان حيث ولدت وترعرت من بين قرى زهران في ما يسمى اليوم بمحافظة القرى في منطقة الباحة التي كانت تحوي سوقًا أسبوعيًا قبل أن يتوقف عمله ويصبح أطلال سوق تظهر في جنباته جنوب الدار بقايا قواعد سقائف تحيط به من جهته الغربية وبقيت ساحته بمسمى ساحة السوق وهكذا عرفت واستمرت حتى اليوم ، ويقال أنه كان سوقًا رائجًا ونشيطًا يقام كل يوم سبت قبل أن ينطوى تاريخه ويشتهر سوق السبت في قرية المندق – مدينة المندق اليوم مركز محافظة المندق بمنطقة الباحة .
وقف قلاب العم خاطر بن علي صبيحة يوم الأربعاء في طرف ساحة السوق في القرية في انتظار نقل الراغبين في الهبوط إلى سوق الربوع بالأطاولة – والقلاب سيارة فورد يملكها ابن القرية العم أبو علي خاطر بن علي بن سعيد يستخدم لنقل الحجارة والرمل ونحوها بالإعارة والأجرة وهو السيارة الوحيدة المتوافرة للنقل آنذاك في القرية رغم وجود بعض السيارات التاكسي المملوكة لبعض سكان القرية لكنها في سفر دائم قليلا ما يأوب بها ملاكها إلى القرية – انطلقت مع أخي الأكبر إلى حيث يقف القلاب في طرف ساحة السوق بالقرية واستقليناه مع الهباط – مصطلح ينعت به الراغبين في النزول إلى سوق الربوع أي الأربعاء في بلدة الأطاولة – وركبنا في حوض القلاب إلى جوار الكثيرين من أهالي القرية قد أكون أصغرهم آنذاك والغالبية منهم من الكبار الراغبين في جلب المشتريات من احتياجات الأسر من السوق .
 سار بنا القلاب في طريق جبلي غير ممهد مارًا بشطر القرية الأسفل ما نطلق عليه الوادي وحمل من الراغبين منهم ما زاد الزحام في حوض القلاب ، واستمر في السير في الطريق الوعرة إلى أن وصل إلى طرف سوق الربوع الذي ما أن رأيته عجبت لتزاحم الناس فيه القادمين إليه من القرى المجاورة والبعيدة ، وشد انتباهي في السوق سعته بمقاييس عيني آنذاك واصطفاف البائعين على جنباته وكانت السقائف تمثل مركز السوق رغم امتداده في الجهة الشمالية منه بين الدكاكين المرتصة في جنباته وقهوة بريق التي كانت تتوسط السوق .
بدأت رحلة التجول في السوق بالتوصيات من أخي ألا أدع يده خوفًا علي من الضياع في السوق ، وأعطاني علامات أتعرف بها على مكان موقف القلاب الذي سيأوب بنا إلى القرية بعد انقضاء السوق ، سرنا بين تزاحم المتسوقين وبين السقائف التي كان يشغلها الباعة وخاصة باعة الأقمشة والبخور والحبوب ونحوها واتجهنا إلى الجهة الشمالية من السوق حيث ترتص بعض الدكاكين ويقع فيها مدخل الفرن ومدخل القهوة وقف أخي على باب أحد الدكاكين وأظنه دكان أبو سته واشترى علبة جبنة من النوع الصغير الحجم وتوجهنا إلى الفرن لشراء التميس فاشترى أخي تميسة واحدة وحملها على كفه حيث صعدنا إلى الدور العلوي الذي تشغله قهوة بريق وترتص فيه الكراسي الخشبية المرتفعة المنسوجة من السلب أو ليف النخيل المفتول وتتوسطها طاولة خشبية مرتفعة توضع عليها طلبات الزبائن ، صاح أخي في عامل القهوة أبو أربعة ياعم ومفك علب ، وآخر يصرخ من مكان آخر أبو ثمانية ياعم ، وعامل القهوة يكرر طلبات الزبائن صارخًا ، عندك واحد أبو أربعة ، وعندك واحد أبو ثمانية ، وهكذا تسمع مناقشات الزبائن وحواراتهم داخل القهوة وصراخ عامل القهوة مكررًا طلبات الزبائن بشكل متداخل يملاء جنبات القهوة جلبة وضوضاء .
أفطرنا ذلك اليوم تميس مع الجبنة والشاهي ، ولأول مرة أرى براد الشاهي المصنوع من الخزف ، وأخي يوصيني بين الوهلة والأخرى بأن أرشد في شرب الشاهي ليكفي فطورنا فالبراد أبو أربعة أي أربعة فناجيل صغيرة من نوع عقال فيصل ، أو من نوع ساق سلوى ، أو من نوع باعشن ، أتممنا فطورنا وحمدنا الله على نعمه ونزلنا إلى السوق ، كان الوقت صيفًا وموسم تسويق التمور ، اصطفت سيارات الفورد التي تحمل عذوق البلح المجلوبة من تربة والآخرى المجلوبة من بيشة ، والباعة يحرجون على بيع العذوق ، ليس غريبًا علي رؤية البلح والتمر لكن الغريب رؤية ذلك الكم المعروض في السوق والناس حوله .
وسار بي أخي ليطلعني على سوق بيع المواشي في الجهة الغربية من السوق حيث تباع الأغنام والأبقار ويباع أيضًا إلى جوارها الدجاج البري والبيض وبعض أنواع الطيور المتوافرة في بيئة القرى حيث لم يعرف آنذاك الدجاج الداجن أو دجاج المزارع ، وبعد مشاهدة المزايدات على المواشي وتقليبها من الزبائن لمعرفة أعمارها ومستوى سمنتها ، عرجنا على دكان ابن مسمار الواقع في الجهة الجنوبية من السوق حيث اشترى لي أخي قزازة كندادراي بأربعة قروش كانت القروش الأولى من جائزة نجاحي التي اشتري بها شيئا خاصًا بي ، طلب أخي أن اعتني بالزجاجة ولا أكسرها فعلينا بعد الفراغ منها أن نعيدها إلى البائع فارغة ونرتد قيمة تأمينها قرشان دفعها أخي حينذاك ، وجلست إلى جوار الدكان استمتع بشرب ذلك المشروب اللذيذ والجديد على فمي ، استحسنتها وأضمرت أن أشتري أخرى متى ما ضمئت ، حيث أنني لم أكد أتمها حتى أحسست بالتخمة لما فيها من غازات .
عاد إلى أخي بعد أن تجول مع بعض رفقته في السوق وقد فرغت من شرب الكندادراي، فأخذني إلى حيث تباع الألعاب لدى بعض الباعة ، كنت تواقًا إلى شراء علب شختك بختك ففي داخلها قد تجد لعبًا مع الحلوى ، اشترى لي أخي منها بأربعة قروش وسار بي بين المتسوقين والباعة في السوق وبينما نحن كذلك إذا ثلاثة أو أربعة رجال يصرخون من فوق السقائف بالتهليل والتكبير ، وهي طريقة اعتادها الدعاة قبل البدء في الخطبة على الأشهاد في السوق ، بينهم رجل كثيف اللحية هو من قام بالخطبة وتوجيه وإرشاد الباعة والمتسوقين أذكر أن ما شدني فيه آنذاك جرأته وخطابته وارتجاله الخطبة على غير ما عهدناه في خطبة الجمعة في قريتنا ، لم أفهم كثيرًا مما كان قد قال لكنني بهرت بالأسلوب والطريقة ، والناس في السوق بين مستمع ومنشغل ، وهو مستمر في خطبته وكأن جميع من حوله في السوق مستمعين .
حملت مع أخي ما اشتراه من البلح وبعض الفواكه وما أوصته أمي رحمها الله تعالى بشرائه من السوق واتجهنا إلى قلاب العم خاطر ولا تزال الكندا دراي تشغل تفكيري ، لم أفلح في شراء أخرى فقد حان موعد الصدور أو العودة من السوق وأطلق العم خاطر بن علي البوري أي منبه السيارة إعلامًا للجماعة المتسوقين بالعودة إلى قريتنا ، فما لبثنا طويلا حتى تجمع من كان قد ركب معنا صباحا هابطا في حوض القلاب للعودة إلى القرية ، كانت رحلة العودة أشق من رحلة الذهاب في نظري ، لكنني خلال الطريق ما انفكيت أتذكر تلك المشاهد في سوق الربوع والتي شاهدتها لأول مرة في حياتي .

وقد تكرر هبوطي أو نزولي إلى سوق الربوع بعد ذلك لكن تلك المرة الأولى التي بقيت مشاهدها عالقة في ذاكرتي حتى اللحظة ، لقد كانت الحياة بسيطة وهادئة وكان التعاون بين الناس ميزة ظاهرة ، وكان التسوق بالدين أي بالأجل أكثر منه بالمدفوع في حينه، وكان الناس يصبرون على بعضهم البعض ويعذرون المحتاج والفقير والمعذور ، ويقايضون السلع بالسلع الأخرى إضافة إلى التبادل النقدي ، وجميع من في السوق إلا ما ندر يتعارفون حتى الذين يأتون من ديار بعيدة مثل تربة أو بيشة ونحوها من الديار للتسويق لبضائعهم ، وتلفت انتباه المرتادين الأسواق آنذاك التحايا والقبل المتبادلة بين المتسوقين والسؤال عن الأحوال والأخبار ، كأنما السوق لأسرة واحدة ، لقد عشت تلك الحقبة الزمنية التي ربت فينا الكثير من مكارم الأخلاق ، فسقى الله تلك الديار ومثل تلك الأيام التي ما أن نذكرها حتى يحن جيلي إلى مثلها ، ونتمنى أن يعيش أولادنا مثلها لتصقل فيهم البر والتقوى وتزيد فيهم شمائل الإيمان والإحسان والتعاون والتكافل والإخلاص ، والله الموفق والمستعان .،،،

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (4)


الوقفة (4): المستمع الصغير ناجح وترتيبه الأول

بعد أقل من شهر في الفصل المفروش بالحصير وبعد انتهاء إجراءات استلام وتسليم المبنى الجديد لمدرسة الحكمان الابتدائية قررت إدارة المدرسة الانتقال إلى المبنى الجديد المتكون من ستة غرف دراسية غرفة لكل صف دراسي إضافة إلى غرفة لإدارة المدرسة وأخرى للمعلمين وغرفة للتربية الفنية ودورات مياه للمعلمين وأخرى للطلاب أذكر أنها بقيت مغلقة طيلة بقائي في المدرسة حتى تخرجت فيها من الصف السادس، وكنا نستخدم بدلا عنها الخلاء شرقي المدرسة ، وغرفة المقصف وهي عبارة عن غرفة مستودع تقع في الجهة الغربية من المدرسة إلى جوار دورات المياه للطلاب المغلقة ، والفصول جهزت بمقاعد خشبية متصلة مع المقاعد المزدوجة للطلاب والطاولات لها أدراج علوية تمثل الطاولة المائلة في اتجاه مقعد الطالب غطاء لدرجها ، ويجلس على الطاولة المتصلة طالبان وقد يجلس ثلاثة عند ضم الفصول لبعضها لغياب معلم أو لطاريء تقرره إدارة المدرسة.
 وفي فناء المدرسة في الجهة الجنوبية يوجد خزان الماء الذي يستخدمه المعلمون والطلاب على السواء لدلاء الماء بهدف الوضوء قبل أداء صلاة الظهر جماعة في ممر المدرسة الممتد على طول الفصول الدراسية والبالغ عرضة مترين تقريبًا ، ولكل طالب وعاء من علب الصفيح المستخدمة لتعليب الدهون من ماركة أبو شوكتين ، منها الربيع ومنها النصيف التي تستوعب من المياه لترين أو أربع لترات وفقًا لأحجامها ، وكان لي علبة من حجم الربيع علامتها خيط أسود ربطته في خرم بأعلاها ويتدلى من الخيط غطاء علبة صلصة مطوي على نفسه ليمثل نصف دائرة بعد الطي ، وكان الطلاب الأكبر سنًا في الصفوف العليا هم من يقومون بالدلاء وتعبيئة علب الوضوء للمعلمين وللطلاب الآخرين.
دخلنا المدرسة الجديدة وبعض العمال لا يزالون يعملون في تثبيت الزجاج على الشبابيك الحديدية بمادة لينة تفوح منها رائحة البنزين أو الكيروسين أو ما شابهها وما تلبث هذه المادة اللينة أن تصبح مادة صلبة مثل الأسمنت بعد فترة وجيزة من تثبيتها في أطراف الزجاج ليلتصق بالحديد ، وأذكر أننا كنا نلتقط الساقط من هذه المادة من العمال أثناء عملهم ونجمعها ونشكيل منها بعض الأشكال التي ما تلبث أن تتجمد وتتصلب فتصبح كالأحجار محافظة على التشكيل الذي شكلناها أياه ، وهي تماثل الصلصال الذي كانت المدرسة توفره للطلاب في غرف التربية الفنية مع اختلاف الشكل والرائحة واللون .
انتظمنا في فصولنا الدراسية وكنا في الصف الأول أكثر من عشرة طلاب بينما كان فصلنا يستوعب أكثر من عشرين طالبًا حيث صفت المقاعد الخشبية المزدوجة بأربعة صفوف متتالية وفي ثلاثة صفوف متجاورة يفصل بينها ممر للطلاب ومعلم الصف ، وما شد انتباهي في المدرسة هو بناؤها من الخرسانة على خلاف ما بنيت عليه منازلنا آنذاك والتي كانت جميعها مبنية من الحجر والمسقوفة بالأخشاب والطين والمليسة من الداخل بالطين المخلوط بالتبن ومخلفات البقر والملونة بالشيدة _ تراب ملون يستخرج من الجبال منه الأبيض ومنه الأحمر ومنه الأصفر _ وتصبغ به الجدران ويقال له التشييد ، وقد يتفنن بعض أهالي القرية عند تشييد منازلهم في رسم بعض النقوش بألوان الشيدة المتوافرة ، وأذكر أننا كنا وأخوتي ممن يفعل ذلك في بيتنا القديم ، وكان في القرية القليل من البيوت المليسة من الداخل والخارج بالأسمنت وكان بيتنا الجديد من هذه المنازل المليسة والمرخمة _ المدهونة باللون الأبيض من الجص والمسمى في ذلك الوقت بالرخام – لكن جميع المنازل والبيوت مبنية من الحجر ومسقوفة كما ذكرت بالخشب والطين ، والقليل أيضًا من الأهالي من يطبطب البيوت والرعوش – أي يكسو أرضيات المنازل والمساحات التي تعلو الأبواب أو الشرفات بالأسمنت – وبقي مبنى المدرسة الخرساني متفردًا في القرية ببنائه وهندسته العمرانية مايزيد عن العامين أو الثلاثة حيث انطلقت البناءات في القرية للمنازل الجديدة باستخدام الخرسانة والطوب ونحوها من المواد الحديثة آنذاك في البناء والتعمير .
سارت أيام العام الدراسي الأول ولا أتذكر الكثير عن التعليم وأساليبه آنذاك ما أذكره جيدًا في نهاية العام الدراسي عندما وزعت إدارة المدرسة الشهادات للطلاب ، وتسلمت شهادتي وفيها نتيجة الطالب الصغير المستمع ناجح وترتيبه الأول ، وبعض زملائنا الطلاب كانت الدوائر الحمراء على درجاتهم في المواد تميز إكمالهم أو رسوبهم فيها ، انطلقت مسرعًا إلى أمي رحمها الله تعالى وكانت لا تجيد القراءة والكتابة ولكنها تميز الدوائر الحمراء الموضوعة على درجات المكملين والراسبين ، كادت أن تطير أمي فرحًا بنجاحي ولم تدرك أنني حصلت على الترتيب الأول بل أدرك ذلك أخوتي وأبي وأشعروها بذلك فأهدتني هديتها واحتفلت بي وبنجاحي ، أما والدي فقد زار المدرسة ومعه شهادتي للسؤال عن وضعي والتحقق من وعد مدير المدرسة رحمه الله تعالى ، فجاء أبي بالبشرى ، مدير المدرسة يقرر نقل الطالب المستمع الصغير إلى الصف الثاني الابتدائي ، ويوصي بتكثيف متابعته لينجح في الصفوف التالية.
نعم انتقلت إلى الصف الثاني الابتدائي وأنا في عمر الست سنوات تقريبًا ، كنت صغيرًا لكنني كنت كما كان يقول أبي عني عقلي يسبق عمري ، والحمد لله رب العالمين المتفضل على خلقه بما شاء ، وكافأني أبي بريالين وكان للريال قيمة كبيرة في ذلك الوقت حيث يمكننا به الذهاب إلى السوق وشراء التميس بأربعة قروش من مخبز بريق في سوق الربوع بالأطاولة وشراء الحلوى بقرشين أو بأربعة قروش من دكان أبو سته أو من دكان ابن مسمار وشراء مشروب كندادراي المشروب المتوافر آنذاك في قوارير تعاد للبائع بعد الفراغ من شرب محتواها بأربعة قروش أيضًا وتشتري بباقي الريال ما يطرح في السوق من ألعاب وتسالي للصغار مثل شختك بختك وعلكة صاروخ ونحوها .
وأذكر أن أول يوم أهبط فيه مع أخي الأكبر إلى سوق الربوع -أي أذهب هبوطًا -كان بعد حصولي على المكافأة المحفزة من والدي أحسن الله خاتمته وأعماله وجزاه الجنة عما بذل لتربيتنا وتنشئتنا التنشئة الصالحة ، ولعلي في وقفات قادمة أصف فيها سوق الربوع وما أذكره مما شاهدته بين جنباته وسقائفه التاريخية الشهيرة ، وهناك بعض الذكريات التي لا تزال عالقة في ذاكرتي أيام الدراسة الابتدائية وسأضمن الوقفات القادمة بعضًا منها بإذن الله تعالى .
لقد كان العام الدراسي الأول متعة ونماء حقيقي لي ولزملائي لما كان يتمتع به معلم الصف وغالبية المعلمين في ذلك الجيل من الإخلاص في العمل والحرص على تعلم الطلاب رغم أنهم من خريجي معاهد المعلمين المتوسطة فرغم قلة إعدادهم ورغم قلة الإمكانات في المدارس وندرة وسائل التعليم والتعلم عدا ما يعدها المعلمون بأنفسهم ، لكنهم كانوا يملكون رغبة ملحة في تطوير كفايات الطلاب بما تيسر لهم من علم وكفاية وأدوات ، ندعوا الله أن يجزلهم أجرهم وأن يكافئهم بالجنة نظير إخلاصهم وتفانيهم وأن يلحقنا بهم من الصالحين والفالحين ،، والله الموفق والمستعان .،،،