الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (4)


الوقفة (4): المستمع الصغير ناجح وترتيبه الأول

بعد أقل من شهر في الفصل المفروش بالحصير وبعد انتهاء إجراءات استلام وتسليم المبنى الجديد لمدرسة الحكمان الابتدائية قررت إدارة المدرسة الانتقال إلى المبنى الجديد المتكون من ستة غرف دراسية غرفة لكل صف دراسي إضافة إلى غرفة لإدارة المدرسة وأخرى للمعلمين وغرفة للتربية الفنية ودورات مياه للمعلمين وأخرى للطلاب أذكر أنها بقيت مغلقة طيلة بقائي في المدرسة حتى تخرجت فيها من الصف السادس، وكنا نستخدم بدلا عنها الخلاء شرقي المدرسة ، وغرفة المقصف وهي عبارة عن غرفة مستودع تقع في الجهة الغربية من المدرسة إلى جوار دورات المياه للطلاب المغلقة ، والفصول جهزت بمقاعد خشبية متصلة مع المقاعد المزدوجة للطلاب والطاولات لها أدراج علوية تمثل الطاولة المائلة في اتجاه مقعد الطالب غطاء لدرجها ، ويجلس على الطاولة المتصلة طالبان وقد يجلس ثلاثة عند ضم الفصول لبعضها لغياب معلم أو لطاريء تقرره إدارة المدرسة.
 وفي فناء المدرسة في الجهة الجنوبية يوجد خزان الماء الذي يستخدمه المعلمون والطلاب على السواء لدلاء الماء بهدف الوضوء قبل أداء صلاة الظهر جماعة في ممر المدرسة الممتد على طول الفصول الدراسية والبالغ عرضة مترين تقريبًا ، ولكل طالب وعاء من علب الصفيح المستخدمة لتعليب الدهون من ماركة أبو شوكتين ، منها الربيع ومنها النصيف التي تستوعب من المياه لترين أو أربع لترات وفقًا لأحجامها ، وكان لي علبة من حجم الربيع علامتها خيط أسود ربطته في خرم بأعلاها ويتدلى من الخيط غطاء علبة صلصة مطوي على نفسه ليمثل نصف دائرة بعد الطي ، وكان الطلاب الأكبر سنًا في الصفوف العليا هم من يقومون بالدلاء وتعبيئة علب الوضوء للمعلمين وللطلاب الآخرين.
دخلنا المدرسة الجديدة وبعض العمال لا يزالون يعملون في تثبيت الزجاج على الشبابيك الحديدية بمادة لينة تفوح منها رائحة البنزين أو الكيروسين أو ما شابهها وما تلبث هذه المادة اللينة أن تصبح مادة صلبة مثل الأسمنت بعد فترة وجيزة من تثبيتها في أطراف الزجاج ليلتصق بالحديد ، وأذكر أننا كنا نلتقط الساقط من هذه المادة من العمال أثناء عملهم ونجمعها ونشكيل منها بعض الأشكال التي ما تلبث أن تتجمد وتتصلب فتصبح كالأحجار محافظة على التشكيل الذي شكلناها أياه ، وهي تماثل الصلصال الذي كانت المدرسة توفره للطلاب في غرف التربية الفنية مع اختلاف الشكل والرائحة واللون .
انتظمنا في فصولنا الدراسية وكنا في الصف الأول أكثر من عشرة طلاب بينما كان فصلنا يستوعب أكثر من عشرين طالبًا حيث صفت المقاعد الخشبية المزدوجة بأربعة صفوف متتالية وفي ثلاثة صفوف متجاورة يفصل بينها ممر للطلاب ومعلم الصف ، وما شد انتباهي في المدرسة هو بناؤها من الخرسانة على خلاف ما بنيت عليه منازلنا آنذاك والتي كانت جميعها مبنية من الحجر والمسقوفة بالأخشاب والطين والمليسة من الداخل بالطين المخلوط بالتبن ومخلفات البقر والملونة بالشيدة _ تراب ملون يستخرج من الجبال منه الأبيض ومنه الأحمر ومنه الأصفر _ وتصبغ به الجدران ويقال له التشييد ، وقد يتفنن بعض أهالي القرية عند تشييد منازلهم في رسم بعض النقوش بألوان الشيدة المتوافرة ، وأذكر أننا كنا وأخوتي ممن يفعل ذلك في بيتنا القديم ، وكان في القرية القليل من البيوت المليسة من الداخل والخارج بالأسمنت وكان بيتنا الجديد من هذه المنازل المليسة والمرخمة _ المدهونة باللون الأبيض من الجص والمسمى في ذلك الوقت بالرخام – لكن جميع المنازل والبيوت مبنية من الحجر ومسقوفة كما ذكرت بالخشب والطين ، والقليل أيضًا من الأهالي من يطبطب البيوت والرعوش – أي يكسو أرضيات المنازل والمساحات التي تعلو الأبواب أو الشرفات بالأسمنت – وبقي مبنى المدرسة الخرساني متفردًا في القرية ببنائه وهندسته العمرانية مايزيد عن العامين أو الثلاثة حيث انطلقت البناءات في القرية للمنازل الجديدة باستخدام الخرسانة والطوب ونحوها من المواد الحديثة آنذاك في البناء والتعمير .
سارت أيام العام الدراسي الأول ولا أتذكر الكثير عن التعليم وأساليبه آنذاك ما أذكره جيدًا في نهاية العام الدراسي عندما وزعت إدارة المدرسة الشهادات للطلاب ، وتسلمت شهادتي وفيها نتيجة الطالب الصغير المستمع ناجح وترتيبه الأول ، وبعض زملائنا الطلاب كانت الدوائر الحمراء على درجاتهم في المواد تميز إكمالهم أو رسوبهم فيها ، انطلقت مسرعًا إلى أمي رحمها الله تعالى وكانت لا تجيد القراءة والكتابة ولكنها تميز الدوائر الحمراء الموضوعة على درجات المكملين والراسبين ، كادت أن تطير أمي فرحًا بنجاحي ولم تدرك أنني حصلت على الترتيب الأول بل أدرك ذلك أخوتي وأبي وأشعروها بذلك فأهدتني هديتها واحتفلت بي وبنجاحي ، أما والدي فقد زار المدرسة ومعه شهادتي للسؤال عن وضعي والتحقق من وعد مدير المدرسة رحمه الله تعالى ، فجاء أبي بالبشرى ، مدير المدرسة يقرر نقل الطالب المستمع الصغير إلى الصف الثاني الابتدائي ، ويوصي بتكثيف متابعته لينجح في الصفوف التالية.
نعم انتقلت إلى الصف الثاني الابتدائي وأنا في عمر الست سنوات تقريبًا ، كنت صغيرًا لكنني كنت كما كان يقول أبي عني عقلي يسبق عمري ، والحمد لله رب العالمين المتفضل على خلقه بما شاء ، وكافأني أبي بريالين وكان للريال قيمة كبيرة في ذلك الوقت حيث يمكننا به الذهاب إلى السوق وشراء التميس بأربعة قروش من مخبز بريق في سوق الربوع بالأطاولة وشراء الحلوى بقرشين أو بأربعة قروش من دكان أبو سته أو من دكان ابن مسمار وشراء مشروب كندادراي المشروب المتوافر آنذاك في قوارير تعاد للبائع بعد الفراغ من شرب محتواها بأربعة قروش أيضًا وتشتري بباقي الريال ما يطرح في السوق من ألعاب وتسالي للصغار مثل شختك بختك وعلكة صاروخ ونحوها .
وأذكر أن أول يوم أهبط فيه مع أخي الأكبر إلى سوق الربوع -أي أذهب هبوطًا -كان بعد حصولي على المكافأة المحفزة من والدي أحسن الله خاتمته وأعماله وجزاه الجنة عما بذل لتربيتنا وتنشئتنا التنشئة الصالحة ، ولعلي في وقفات قادمة أصف فيها سوق الربوع وما أذكره مما شاهدته بين جنباته وسقائفه التاريخية الشهيرة ، وهناك بعض الذكريات التي لا تزال عالقة في ذاكرتي أيام الدراسة الابتدائية وسأضمن الوقفات القادمة بعضًا منها بإذن الله تعالى .
لقد كان العام الدراسي الأول متعة ونماء حقيقي لي ولزملائي لما كان يتمتع به معلم الصف وغالبية المعلمين في ذلك الجيل من الإخلاص في العمل والحرص على تعلم الطلاب رغم أنهم من خريجي معاهد المعلمين المتوسطة فرغم قلة إعدادهم ورغم قلة الإمكانات في المدارس وندرة وسائل التعليم والتعلم عدا ما يعدها المعلمون بأنفسهم ، لكنهم كانوا يملكون رغبة ملحة في تطوير كفايات الطلاب بما تيسر لهم من علم وكفاية وأدوات ، ندعوا الله أن يجزلهم أجرهم وأن يكافئهم بالجنة نظير إخلاصهم وتفانيهم وأن يلحقنا بهم من الصالحين والفالحين ،، والله الموفق والمستعان .،،،


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق