الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (8)



الوقفة (8): مؤلفون ومنظمون ومخرجون

على الرغم من ندرة توافر أوقات اللهو للأولاد من جيلي بعد الانصراف من المدرسة لانشغال البعض منا مع أسرهم في الأعمال الزراعية أو الرعي والمساعدة في جلب المياه للمنازل والاحتطاب والاعتلاف وسقاية المزروعات وحمايتها ونحوها ، إلا أنني أذكر بأننا كنا بين الحين والآخر نلهو بممارسة بعض الألعاب الفردية أو الجماعية ، وقد أثرت ممارسة بعض الأنشطة المدرسية في تشكيل توجهاتنا ورغباتنا في اللهو خارج المدرسة.
 فمن الألعاب الجماعية التي كان يقبل عليها جيلي من الصغار في فترة الثمانينات وبداية التسعينات الهجرية من القرن المنصرم كانت لعبة كرة القدم وقد أختار الكبار وقلدهم الصغار في قريتي بعض الأراضي الزراعية الواسعة غير المزروعة شرقي القرية منها على ما أذكر قطعة أم قريش ، وقطعة المجادير بعد ذلك ثم قطعة أم دحيم ، وكانت جميع الأراضي الزراعية والآبار والجبال والطرق والسبل بمسمياتها المعلومة معروفة لدى كل أفراد القرية .
وكنا نمارس لعبة الصياد والسمك – وهي لعبة يخطط لها مستطيل بحسب سعة المكان الذي تمارس فيه اللعبة ومربعين في طرفا المستطيل يقف في كل مربع منها واحد منا نسميه الصقر الصياد بينما يدخل المشاركين في اللعب داخل المستطيل ويسمون الحمام ثم يقوم الصقور الصيادين بقذف كرة تصنع عادة من الشراب المحشو بأقمشة وأوراق خفيفة الوزن فإذا أصاب الصياد بها أحد المشاركين في اللعب داخل المستطيل يخرج المصاب من المستطيل ويكتفي بالمشاهدة حتى إذا لم يبق داخل المستطيل إلا إثنان يتم ترقيتهما إلى صقور يحتلان مكان الصقرين السابقين في المربعات في طرفي المستطيل وهكذا يتم تكرار اللعبة – وأذكر بأن المكان الذي اختير لممارسة هذه اللعبة كان في شمالي القرية في قطعة الحائط أو في قطعة الصبخة ، وبينما الكبار يمارسون كرة الطائرة في قطعة الواسط شرقي القرية أو في شعب أحمد جنوبي القرية ، كنا نمارس لعبة المثل في جبل أبو حميد غربي القرية – ولعبة المثل هي لعبة إصابة الهدف عن طريق الرمي بالحجارة حيث تنصب أحجار بحجم الكتاب لمتنافسين في موضع تحدد فيه المسافة بينهما بتقدير مدى الرمي لكل منهما ، وينصب كل منهما حجرين متتاليين بحيث إذا وقع الأول نتيجة إصابة ضعيفة يسقط إلى الخلف بدون أن يسقط الذي يليه ، ويسقط الثاني بالإصابة المباشرة أو إصابة الأول إصابة مباشرة قوية تدفعه لإسقاط الحجر المنصوب الذي يليه ، ويستمر اللعب إلى أن يتمكن الرامي من إسقاط الهدفين لمنافسه ثم يتم تبادل المواقع لجولة أخرى أو نزول متنافسين آخرين غيرهما – ويقع جبل أبو حميد إلى الجهة الغربية من القرية وقد مارس فيه جيلي الكثير من الألعاب .
ولعل أكثرها ثباتًا في ذاكرتي مما تأثرنا فيه بما تقدمه المدرسة آنذاك من الأنشطة الثقافية تلك المحاولات المبكرة لنا نحن الصغار للتأليف المسرحي وتنظيم المهرجانات الصغيرة وفقًا للإمكانات المتاحة للصغار في عمرنا في ظل الظروف الأسرية المتقاربة لأهل القرية ، كما مارسنا فيه التمثيل والإخراج المسرحي ، حيث يجتهد بعض الأصدقاء في التخطيط لإقامة مهرجان يدعى له باقي الأقران في القرية ويحدد له موعد ثابت يبلغ الجميع به بالدعوات المباشرة وغالبًا ما يكون ذلك خلال الإجازة أو العطلة الصيفية وتوزع المهام بين المنظمين فمنهم من يقوم بالتأليف لمقاطع مسرحية صغيرة ومنهم من يمارس دور التمثيل ومنهم من يعد الجوائز الرمزية للمتنافسين وغالبًا ما تكون من الحلويات والبسكويت وبعض الألعاب البسيطة التي لا تكلف مبالغ لا يملكها الصغار آنذاك ، ومنهم من يعد برنامج المهرجان من المسابقات والألعاب الجماعية كالجري وكرة القدم ونحوها ، وأذكر أنني شاركت في تلك الفترة مع أكثر من فريق لتنظيم تلك المهرجانات تارة في التأليف وأخرى في التمثيل وأخرى في التنظيم وأخرى في الإخراج المسرحي وكثيرا ما جمعت بين كل المهام في المهرجان الواحد .
وقد اخترنا لإقامة تلك المهرجانات مواقع تمتاز بتدرجها بما يتيح تنفيذ الألعاب والفقرات المختلفة وخاصة المسرحية وبما يتيح المشاهدة للمشاركين في المهرجان والحضور وقد يكون بين الحضور بعض الكبار ، ومن تلك المواقع جنبى إبن شهوان في جبل أبو حميد المطلة على وادي ربية – وجنبى بضم الجيم والنون وفتح الباء جمع تكسير لجناب وهو قطعة الأرض الممتدة فوق قطعة الأرض الزراعية الأكبر وغالبًا ما تشكل المدرجات الجبلية التي تمتاز بها منطقة الحجاز في الباحة والمناطق الجنوبية في شبه الجزيرة العربية ، وأذكر أنني في تلك المرحلة من عمري بدأت أنظم الشعر الشعبي وأمارس الخطابة والتقديم للمهرجانات التي نفذناها لأكثر من عام ، وقد أقمنا مهرجانات أيضًا في شعب الفقهاء وفي شعب عرابة .
 ولعل تلك الفترة هي التي جذبتني وهيأتني فيما بعد لممارسة الكتابة حيث استمريت في ممارسة التأليف المسرحي حتى في المرحلتين المتوسطة والثانوية وقد اعتمد لي أكثر من نص مسرحي تم تمثيله في المعهد العلمي بالطائف ، وفي المرحلة الجامعية كنت شغوفًا بالأدب والبحث والكتابة والشعر إلى أن تطورت تلك المهارة في مجالات البحث العلمي وتأليف الكتب وقرض الشعر بأنواعه في المراحل التالية من عمري .
 وإنني لأنظر إلى الأطفال المعاصرين وقد استنزفت أوقاتهم ألعاب الفيديو والكمبيوتر والحاسبات الإليكترونية والآيباد والهواتف المحمولة فأشفق عليهم مما ينالهم من مضارها الثابتة علميًا وعقليًا وأنظر إلى جيلي الذي انتفع بمهارات طفولته في كبره ، نعم الحياة في تطور مستمر وقد تكون هذه الأيام ذكريات لأطفالنا في المستقبل يقارنونها بما يحدث في المستقبل من تطورات تتغير بها أنشطتهم فيشفقون شفقتنا على الصغار في الأجيال القادمة ، لكني أؤكد بأن ما مر به جيلي كان معلمًا ومربيًا في ذات الوقت وكان تدريبًا لنا على الكثير من المهارات القيادية والعملية والمهارات الاجتماعية والحياتية ، وقد تعلمنا منها الكثير من الشمائل الكريمة والأخلاق النبيلة ، حتى تلك الألعاب الجماعية التي كنا نمارسها كانت تؤلف بين قلوبنا وتجمعنا على الخير والحب والاحترام وتسعدنا أكثر مما يسعد به الصغار في هذا الجيل المعاصر .
 وإن ذاكرتي المتواضعة لتزدحم بأسماء المواقع والأراضي الزراعية والآبار والطرق والخلجان والأدوات الزراعية والمنزلية والجبال والأودية والشعاب ونحوها مما يمكن فيه تأليف أكثر من مؤلف ، ولا أرى أن الجيل المعاصر يستوعبها لانصرافه عنها إلى ما يشغله في وسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي المعاصرة ، وقد يأتي الزمن الذي لا يعرف فيه أولادنا وأحفادنا تلك المسميات ، فالكثيرون منهم عاشوا مع أسرهم في المدن بعيدًا عن القرية وإن قدموا إليها في إجازات الصيف فإن آباءهم لا يهتمون بتعريفهم بها وستندثر تلك الأسماء تدريجيًا ، ونلاحظ نحن الكبار تفلتها من بعضنا نتيجة البعد وقلة الاستخدام .
 وقد اجتهد أكثر من مؤلف في منطقة الباحة بتدوين بعض تلك الأسماء مع تفسير معانيها لكنها تبدوا من الغرابة لدى القراء المعاصرين ما يثير تساؤلاتهم عن جدواها ، هكذا التغير الزمني بإرادة الله تعالى يقود إلى تغير العادات والتقاليد والأعراف ونسلِّم بأن ما كان بالأمس ضروريًا قد يكون اليوم غير ذلك ، والله يعلم بماذا سيميز به غدنا ومستقبل الأجيال القادمة ، ولعل ما بقي في ذاكرتي ينشِّط ما بقي في ذاكرة القراء والمتابعين من جيلي لتذكر بعض تلك الأسماء والمواقع والنشاطات التي كنا نملأ بها أوقات فراغنا وإن قل ،، والله الموفق والمستعان.،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق