السبت، 16 أبريل 2016

وقفات من حياتي قبل أن تمحى من ذاكرتي ، الوقفة (11)



الوقفة الحادية عشرة : بين سينما نجمة وسينما عكاظ
في نهاية العام الهجري 1392هـ تخرجت في مدرسة الحكمان الابتدائية في الوقت الذي لا تزال قريتي خالية من الكهرباء ولا يزال الأهالي يستخدمون وسائل الإضاءة التقليدية وترتب على ذلك جهلنا التام بوسائل الإعلام المرئية المتوافرة آنذاك في المدن مثل التلفزيون والسينما ، وقليل من أهالي القرية من يملكون الراديو الذي يعمل بالبطاريات ، وكنا نطلق على البطاريات حجار الكشافة ، لآن الغالب على استخدامها كان في مصابيح النور الكاشف اليدوية التي تعمل بالبطاريات آنذاك .
فبعد تخرجي من المرحلة الابتدائية وتزامن ذلك مع تخرج أخوتي الكبار من المرحلة المتوسطة قرر والدي وفقه الله وأحسن خاتمته أن يلحقنا بالمدارس ذوات المكافآت في مدينة الطائف فخير أخوتي الكبار حيث اختار أخي سعيد وفقه الله معهد إعداد المعلمين بينما أختار أخي محمد وفقه الله ثانوية دار التوحيد ، أما أنا فقد اختار لي والدي الالتحاق بالمعهد العلمي ، وقد انتقل عمل والدي آنذاك إلى مدينة الطائف برغبته ليكون إلى جوارنا ومشرفًا علينا ، فأضطر في العام الأول أن يسكن بعيدًا عن أسرتنا في مدينة الطائف ويتولى خدمتنا بنفسه .
وقد كانت اللحظة الأولى التي أدخل فيها مدينة الطائف قبل ذلك بعامين تقريبًا بينما مررنا بها في طريقنا إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، وكنت قد سجلت في المشهد الأول مجموعة من الذكريات وأنا على ظهر اللوري الذي نقلنا مع المعتمرين ومنها على سبيل المثال مشهد الحصان الذي يجر عربة البضائع ، والدراجات التي يستخدمها الكبار والصغار والسيارات المتنوعة وهي تسير على طريق مسفلت في شوارع تحف بها المحلات التجارية وتتوسطها أرصفة مشجرة ، وصوت بعض الباعة المتجولين الذين كانوا يبيعون المعمول والبسبوسة والمنتو واليغمش واللبان ونحوها ، لكنني في المشهد الثاني الذي رافقت فيه والدي وأخوتي إلى مدينة الطائف رأيت ما هو أكثر من مظاهر الحضارة التي لم نألفها في القرى ومنها التلفزيون في المنازل وفي المقاهي والتلفونات ، ودور السينما والحدائق والمسابح والأندية والقصور التاريخية كقصر شبرا وقصرعرب ، والقلاع التاريخية كقلعة باب الريع والمثناة ، ومواقف سيارات الأجرة التي تنقل المسافرين من الطائف إلى مكة المكرمة وجدة وإلى الرياض ، والأسواق المنظمة مثل سوق الهادي وسوق العباس والحراجات ، والمنشيات أو أسواق الخضار والفواكه واللحوم مثل منشية الشرقية ومنشية الشهداء ، والمساجد التاريخية مثل مسجد ابن عباس والمساجد الحديثة كمسجد الهادي ، ومستشفى الملك فيصل الذي كان يتوسط مدينة الطائف ، وتعدد الأحياء والحارات مثل حارة اليمانية والبخارية والشرقية والبلد والشهداء الشمالية والشهداء الجنوبية والسليمانية وشهار وحارة أبوبكر ونحوها ، كل هذه المظاهر كانت كالحلم بالنسبة للطفل في مثل سني آنذاك .
لكن أكثر ما استقر بذاكرتي تلك الليالي التي كان يصطحبني فيها أخي الأكبر سعيد وفقه الله إلى المقهى لمتابعة مسلسل وضحى وابن عجلان أومسلسل ستيف أوستن الأسبوعية ، وكانت المقاهي تتجاور على شارع الملك فيصل بجوار حديقة نجمة والتي كانت معلمًا حضاريًا في قلب المدينة وبالقرب من ساحة ابن عباس الشهيرة ، وكانت سينما نجمة من أشهر دور السينما في مدينة الطائف ولا تبتعد كثيرًا عن المقاهي حيث تقع إلى الخلف منها في اتجاه حديقة نجمة ، وأذكر أن أول مرة دخلت فيها السينما كانت مع أخي الأكبر وبعض أصدقائه ولا أزال أذكر تلك الأفيشات – الصور الدعائية للأفلام – معلقة في حائط السينما من الخارج وبأحجام كبيرة لجذب هواة الاستمتاع بمشاهد الأفلام السنمائية ، لا أذكر اسم الفيلم العربي الذي شاهدته لأول مرة لكنني أذكر أن من أبطاله الفنان فريد شوقي والفنانة نبيلة عبيد ، وصورهما تظهر مكبرة على لوحات الدعاية للفيلم .
وكان من المعتاد في دور السينما أن يشغل الفنيون فيلمًا سبق تشغيله في أيام سابقة في المدة التي تسبق الزمن المحدد لعرض الفيلم الجديد للمشاهدين الذين يبكرون في الحضور ، وصادف أن كنت مع أخي وأصحابه ممن بكر في تلك المرة بزمن لا يقل عن ربع ساعة وشاهدت خلالها لقطات من فيلم أجنبي لجمس بوند شدني بالفعل أكثر مما شدني الفيلم الرئيس للعرض ، وبعد مشاهدتنا للفيلم المعروض في فترة العرض الأولى والتي استمرت إلى موعد صلاة المغرب تقريبًا انصرفنا من السينما إلى المنزل وكان لا بد أن أحفظ السر الذي حملته من أخي بأن لا أتحدث عن ذلك أمام الوالد حتى لا نتعرض للعقوبة فقد كان والدنا وفقه الله محافظًا ملتزمًا ولا يحب ارتياد المقاهي ولا دور السينما ولا يحبها كذلك لأبنائه.
وفي المرة الثانية صحبت أخي الأوسط محمد وفقه الله إلى مسبح عكاظ الذي تتواجد إلى الجوار منه سينما عكاظ ، وعند وصولنا إلى بوابة السينما ومشاهدة لوحات الدعاية لفلم أجنبي أخبرت أخي بأنني قد ذهبت مع أخي الأكبر إلى سينما نجمة وكان الفيلم الأجنبي مثيرًا تقدمنا نحو بوابة دار السينما وسألنا عن رسوم الدخول والأوقات للعرض وعدنا أدراجنا بعد أن شاهدنا مسبح عكاظ وبعض الشباب والأطفال يسبحون ويلعبون إلى جواره بعض الألعاب الجماعية مثل كرة السلة وكرة الطائرة ونحوها .
وبدأنا التخطيط لجمع المبلغ الذي نحتاجه لرؤية فيلم أو فيلمين في سينما عكاظ وبالفعل في نهاية الشهر وبعد أن منحنا الوالد من مكافآتنا التي كنا نتحصل عليها من المعهد العلمي ودار التوحيد مصروفنا الشهري ، انطلقت مع أخي محمد وفقه الله إلى سينما عكاظ وشاهدنا فيلمًا أجنبيًا لا أذكر بالفعل مجمله ولا تفاصيله ، لكنني أذكر بالتحديد تلك المغامرة واتفاقنا على أن نخفي ذلك ونكرره متى توافرت لدينا قيمة التذاكر.
لقد قضيت العام الأول عزوبيًا مع والدي وإخواني وكنت أشاركهم في أعمال المنزل وأشاركهم بعض رحلاتهم في الركبان أمام قصر شبرا وفي وادي وج الذي لم يكن يليه من الجهة الجنوبية سوى تلال ومزارع ، كنا نذهب إليها سيرًا على الأقدام للتنزه أو للمذاكرة ، كما كنا نداوم إلى مدارسنا سيرًا على الأقدام ذهابًا وأيابا ، وكانت الطائف مدنية بالنسبة للقرويين من أمثالنا لكنها في مقاييس المدينة اليوم كانت حاضرة متواضعة ولم تكن الطائف في حجمها آنذاك تساوي عشر ما هي عليه اليوم ، وكنا نجوبها من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها سيرًا على الأقدام ، وقد كان لي في هذه المدينة الكثير من الذكريات ولا تزال الكثير منها في ذاكرتي إلى اليوم ولعلي أعرج في وقفاتي التالية على بعض منها .
والشاهد في هذه الوقفة شيوع توافر السينما في بعض المدن في تلك الحقبة الزمنية وتوافرها أيضًا في بعض المدارس ودور العلم ، لكنها ما لبثت أن استنكرت وطويت صفحتها ضمن الممنوعات في بلدي ، ولا أزال أستغرب استنكار تواجدها في الوقت الذي توافرت في المنازل اليوم من الأجهزة والوسائل ما يشبهها خاصة مع تطور صناعة الشاشات وأجهزة العرض (البروجكتور) ونحوها ، ونوافق المتحفظين على الاختلاط تحفظهم ، لكننا يمكن أن نتيح المجال لدور العرض السينمائية دون اختلاط كأن تخصص دور للرجال وأخرى للنساء ، ففي وجهة نظري المتواضعة يمكن أن تكون دور السينما متى ما وجهت نحو أهداف سامية بما يتوافق مع القيم الإسلامية مصادر معلومات وثقافة وتعلم للأجيال ، وأحترم الرأي الآخر أيضًا في كل الحالات ،، والله الموفق والمستعان .،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق